ماذا تبقي من الطاهر وطار؟، السؤال بهذه الصيغة عن المبدع الراحل الذي لقب بأب الرواية الجزائرية المواكبة لتحولات البلد الذي خاض من أجله صراعات القلم، وترجمت أعماله لمختلف اللغات، صار مطروحا للنقاش المتباين في الساحة الثقافية، بدءا من الإذاعة الجزائرية، التي تناولت الموضوع في الحصة الثقافية "حبر وأوراق" للدكتور الأديب أمين الزاوي. ويرجع البعض أن الشعور، بجدوى السؤال، برز بشكل واضح بعد مناشدة عائلة الروائي الجزائري الطاهر وطار كل من وزير الثقافة عزالدين ميهوبي إلى التدخل من أجل إطلاق اسمه على إحدى المؤسسات الثقافية أسوة بالخطوة التي اتخذها مؤخرا بإطلاق أسماء شخصيات فنية وثقافية على مسارح وقاعات سينما، وكل أصدقائه الغيورين على جمعية الجاحظية القدماء والأعضاء المؤسسين لها، منهم الروائي واسيني الأعرج والروائي أمين الزاوي والروائي مرزاق بقطاش، للحفاظ عليها كإرث ثقافي له صيته في مختلف بقاع العالم العربي. ودعت أيضا الجهات الرسمية إلى تبني فكرة إنشاء جائزة محترمة للرواية تحمل اسمه "وطار"، توزع على الأدباء الشباب في الجزائر، اعترافا بما قدمه للأدب الجزائري ، معتبرة أن الراحل يعد إرثا جماعيا يجب إنصافه بعدما تجاهله المسؤولون الذين تعاقبوا على رأس وزارة الثقافة في حياته، وهو ما يثير حقيقة السؤال في غيابه وكيفية التعامل والتفاعل مع الإرث، الذي تركه موزعا بين جمعية الجاحظية كمؤسسة ثقافية طموحة بإمكانيات ضئيلة، وأعماله الأدبية التي يرتبط جزء كبير منها بالأدب الإيديولوجي . خيبات وطار يقول المخرج السينمائي محمد الزاوي إن الحديث عن إنصاف وطار يختلط كثيرا بما وصلت إليه الجمعية الثقافية الجاحظية ، التي تأسست في 1989 مع دخول البلد التعددية السياسية وأزمة العنف الدموي ، وكان رهانه الكبير بجعلها مشروعا لخدمة وترقية الثقافة بجميع الوسائل، شعارها "لا إكراه في الرأي "، وعزم على أن تشكل البديل الحي للمثقفين الذين يقفون خارج أسوار السلطة أمام العجز المسجل في الأطر الرسمية الأخرى كاتحاد الكتاب الجزائريين، فأعطاها من ماله وجهده وصحته، لدرجة أن أموال جائزة الشارقة التي فاز بها سخرها لفائدتها ومن أجل إطلاق وتمويل جائزة الشعر مفدي زكريا وغيرها من البرامج. ويضيف السينمائي الزاوي، الذي رافق الراحل وطار في أيامه الأخيرة أثناء العلاج بباريس وأنجز فيلما وثائقيا عن مساره وبصوته، بعنوان "آخر كلام " ، أنه تحسس التشوق الكبير الذي كان يعبر عنه الراحل الطاهر وطار لمنبته الاجتماعي والثقافي ولولادته الأولى، فقد عاد في أيامه الأخيرة إلى دفء العائلة وإلى قريته "سافل الويدان" قرب عين البيضاء في الشرق الجزائري ليحتمي بها، مثلما أحس في فترة مكوثه ببيته في فرنسا لمدة عشرة أيام ، أنه كان يعيش حالة استراحة المحارب، لم يكن يجادل في مسائل اختلف فيها مع آخرين لكنه عاد إلى ذاته الثقافية، سواء من خلال الاستماع إلى مطربي الأغنية "الشاوية " بأصولها الأمازيغية عن طريق هاتفه النقال أو ترديده الشخصي للكثير من الأغاني التي ارتبطت بذاكرته والتي رسمت حياته ، بشكل جعلت صاحب الكاميرا يحس وكأن وطار يعيش خيبة كبيرة يردها لعدم تمكنه من إنجاز كل أحلامه ومشاريعه كلها، في وقت دخل فيه أجواء مواجهة التحدي الذي كان ينتظره عبر استقبال الموت التي كان يعتبرها تجربة "فنية وديموقراطية" تسمح بتعاقب الأجيال واستلام السلطات . ما لمسه السينمائي والإعلامي من خيبات وطار ، هل هي جزء من تبرير طرح ذلك السؤال؟، يجيب الزاوي إن الراحل كان في أوج العطاء الإبداعي خلال السبعينات ، وكانت تربطه علاقات قوية بالكتاب والحركات اليسارية في العالم والعالم العربي، لكن في عهد التسعينات مع سقوط المنظومة الاشتراكية والحلم الاشتراكي ومجيء عهد وزمن الإسلاميين وأصحاب الشعارات الشعبوية الطوباوية بما رافقه بعد ذلك من فتك وتدمير واغتيالات، عاش وطار خيبة كبيرة وهو المؤمن والمتمسك في مجمل مساره بمناهضة الاستبداد والظلم وكافة أشكال الاستغلال وبالخط الاشتراكي إلى وفاته ، وقد قالها في الفيلم، أنه متمسك بحلم العدالة الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء والرسل، ذلك ما أكده الزاوي بعين المخرج بعيدا عن العناوين، التي لن تخلوا عن التحولات الفكرية ومشاريع المجتمعات التي تغيرت والنكسات والانكسارات الإيديولوجية، مرورا بما ما قام به من عمل في الحياة السرية معارضا لانقلاب هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة من 1965 حتى أواخر الثمانينات من القرن الفارط ، وما اتخذه من موقف رافض لإلغاء انتخابات 1992 ولإرسال آلاف الشباب إلى المحتشدات في الصحراء دون محاكمة ، وهوجم كثيرا عن موقفه هذا ، وقد همش بسببه كما جاء في وثيقة نشرتها الجاحظية. مطاردة "اللاز" بالرغم من شخصيته الاستثنائية في المسرح الأدبي إلا أن الطاهر وطار لم يخلف تيارا فكريا أو أدبيا من ورائه ، وكان نفسه يقول إنه يؤسس خلية واحدة بنفسه تقوم عبر أجيال الجاحظية، التي كان يسعى لنشرها عبر التراب الجزائري ، كفروع تلمس حرية الكلمة المستمدة من شجاعته في بعض الأحيان إلى حد تكون فيه جارحة مثلما فعل مع الكاتب الروائي الطاهر جاووت، الذي اغتاله الإرهاب، وقال بخصوصه أن الذي تبكيه هي أسرته وفرنسا، الأمر الذي عرضه إلى الإقصاء من قبل النخبة أولا، ومن بعض الصحافيين باللغة الفرنسية الذين أصدروا في شأنه حكما مفصليا، ظل يطارده في حياته ومماته عبر وصفه بكثير من الأوصاف التمييزية بأنه بعثي وعروبي وإسلامي الخ، وفي الوقت نفسه أن من انتسب إليهم وفق ذلك الوصف طاردوه أيضا عبر معارك وصلت إلى حد المطالبة بعزله من الأجهزة والمناصب الضامنة لمعاشه . لكن روائي "اللاز" و "الزلزال " و "الشمعة والدهاليز " ، الذي يحضره بابلو نيرودا والمتنبي أو الشنفرى في "مقامه الزكي عند العودة ورفع يديه بالدعاء " ، ومهما طاله الإقصاء والتهميش إلا أنه، على حد تعبير الكثير من مبدعي جيله، ما يزال محور نقاش جميل ينبش في رصيده عبر طرح السؤال، حتى وإن لم يتهيكل إيجابا عبر محرك الجاحظية وامتداداتها، بالنظر للوضع الصعب الذي تعيشه حاليا وما تعانيه من انعدام تمويل برامجها وغياب الإسهام الذاتي للقيام بالنشاطات المطلوبة والمميزة للحفاظ على إرث وطار، الذي كان مفصلا هاما في الجسد الثقافي الجزائري والعربي، أديب وشاعر وإعلامي وسياسي وطني من الدرجة الأولى، على حد تأكيد خليفته على رأس الجمعية الدكتور محمد التين، مفيدا أن حياة التعددية التي تعيشها الجزائر اليوم ستفتح للباحثين لاحقا إمكانية الوقوف على هذه الإسهامات . التنكر للعراب يقول الروائي رياض وطار أن عمه قد أسس لمدرسة "وطارية " إن صح التعبير، حيث كان تأثيره لافتا وعميقا على العديد من الأقلام التي أتت بعده، إذ حاولوا تقليده والمضي تحت جلباب أدبه ، في المقابل يقول هناك من حاولوا قتله أدبيا والتنكر له وعدم الاعتراف به كعراب للأدب الجزائري ، مصرحا بحماس عن التواصل بين الأجيال التي كان الطاهر وطارا حريصا على ربطها من خلال تعريفه بتلك المواهب للعالم . وأكد على ضرورة احترام منجزاته سواء اتفق أو اختلف معه ، فكتاباته أصبحت موضوعا متداولا في أهم رسائل الماجستير والدكتوراه ورسائل الليسانس في مختلف جامعات أنحاء العالم ، كما أن الشباب الذين عاشوا مرحلة أعز إبداعات وطار حولوا أهم أعماله إلى خشبة المسرح التي تذوقها الجمهور اقتباسا بالجزائر وتونس والمغرب ك "الزلزال "و"الشهداء يعودون هذا الأسبوع "و خاصة " الهارب" وغيرها. ويتفق الروائي أمين الزاوي والناقد مخلوف عامر على أن انطلاقة وطار الحقيقية كانت في القصة القصيرة الحديثة التي تجاوزت القصة الكلاسيكية ، وهذا ما أهله بعد ذلك للتجديد في الكتابة الروائية ، فرغم أنها ثلاث مجموعات قصصية فقط إلا أن أثرها كان صانعا لشخصية وطار الأدبية لتكون صوتا أدبيا جيدا على المستوى العربي، فنص "رمانة" مثلا كان من أجمل القصص العشقية والوطنية في الأدب العربي، قصته وأدبه عموما يبرزان الخلطة الجميلة بين الإيديولوجية السياسية والفكر الرومانسي والحس الوطني وكذلك قربه من الفكر الشعبي، حيث واكب مراحل متغيرة في التاريخ الجزائري والعربي عموما، أدبه وقلمه كانا نداء خفيا ودعوة للقراءة النقدية للتاريخ العربي والإسلامي، متجاوزا بمراحل وبشجاعة الأدب الرسمي عبر ارتباطه بالواقع وخاصة السياسي منه في مسيرته الروائية ، حيث المضمون يأخذ الصدارة ، مما جعل لديه القدرة على التنقل بين الخطاب السياسي والكتابة الأدبية بسلاسة، وأتت تجربة رواية "الحوات والقصر" لتنتقل به إلى بعد آخر من الكتابة يختلف تماما عما كتبه سابقا. أجوبة الانبعاث ما يميز أدب الطاهر وطار في رأي الناقد مخلوف عامر أن أسلوبه جعله مقروء على نطاق واسع بسبب الخطاب السياسي الإيديولوجي الذي ساعده للولوج إلى اهتمام القارئ، وقدرته على تضييق الهوة بين اللغة العربية الكلاسيكية وبين اللغة الدارجة ، لغة جمعت بين الفصاحة والقرب من لغة الشارع المتداولة، فكان لصيقا بتحولات المجتمع والواقع . المبررات الأخرى التي يحاول البعض تكريسها لمحو ما تبقى من آثار وطار، يجيب عنها الدكتور أمين الزاوي بالقول إن وطار كان ابنا للمنظومة المدرسية الدينية المحافظة ونتاجا للفقيه، لكن خطاباته السياسية في كتاباته كانت عقلانية علمانية وليبرالية ، وطرح تساؤلات عن كيفية تمكن هذا الجيل من مقاربة الفكر والسياسة والخروج بكل شجاعة من ثوب التدين والفصل بين الأمرين، غير أن الناقد مخلوف عامر يرى أن الأمر يتعلق بظروف معيشة الشخص بحد ذاته، ليس كل الجيل الذي رافق وطار قد انتهج نهجه مع أنهم قاسموه تشابه ظروف المعيشة تقريبا، بما فيهم أولئك الذين درسوا في البلدان العربية القريبة من المحيط الجزائري والتنظيمات السياسية التي كانت سائدة في فترة السبعينات من القرن الفارط والمصنفة على الفكر اليساري الذي استوعبه فكرا وأدبا بكل ذكاء بل تجاوزه نحو التعبير عنه في كتاباته الأدبية بقوة من خلال التطرق إلى الصراعات السياسية بناء على معرفته بالداخل السياسي الجزائري من خلال اشتغاله كمراقب في جبهة التحرير الوطني. هل كان وطار ضحية قناعاته الإيديولوجية التي تراجعت عنها الجزائر كلية، وهو الذي كان من وراء تجربة مميزة في بعث الإذاعات المحلية وإذاعة القران الكريم، حينما عين لفترة على رأس الإذاعة الجزائرية التي بادرت، مؤخرا ، بطرح السؤال: ماذا تبقى من وطار؟ ، برأي الناقد مخلوف عامر أن الطاهر وطار سيبقى حاضرا كعلامة مميزة في الأدب الجزائري والتاريخ العربي، كتاباته هي تأريخ لمرحلة تاريخية جزائرية ستفتح للدراسة والتنقيب، كونه الناطق الأكثر صراحة وواقعية ، وكتاباته هي سجل تاريخي يؤرخ للتراث الجزائري والعربي الإسلامي رغم تقلص شحناته الأدبية أحيانا مع ميله إلى مواضيع أخرى في رواياته الأخيرة بسبب الظروف الصحية التي مر بها والتحولات الأدبية وظهور أشكال جديدة من الكتابة. كما يأمل الكثير من المثقفين أن التساؤل بتلك الصيغة سيساهم في إحياء شخصية الطاهر وطار وتحليلها، ومنح متعة التعرف إليه أكثر لدى جيل متعطش لمعرفة كبار وأعلام الأدب الجزائري ورواده، خاصة وأن وطار سبق وترك رسالة في شكل وصية مليئة بالعبر والدروس وبصوته وصورته في الشريط الوثائقي" أخر كلام" ، وبقلمه أيضا ، والأمر بحتمية الإجابة عنه في السياق الصحيح هو إحساس طبيعي أن ينال كاتب كبير، مثل وطار الكثير من الاهتمام مثل كل كتاب العالم الذين تفتخر بهم شعوبهم وتنظم تظاهرات حول أعمالهم. الأكيد أن هناك الكثير والكثير مما تبقى من وطار من الأشياء التي لم تبعث ولم تدرس عن الرجل، الذي يمتلك الخصال الإنسانية والشجاعة في المواقف السياسية، فهو خفيف الروح ومساعد للشباب والأقلام الفتية وصاحب حضور قوي في الساحة الأدبية، بدليل أن إثارة السؤال بعد دعوة العائلة إلى إنصافه ، من شأنه أن يزيح الغبار ليخرجه من دائرة المطلبية العائلية الضيقة إلى الدائرة الكبيرة.