حين انطلقت الثورة الجزائرية فيالأول من نوفمبر عام 1954، تتويجا لثورات وانتفاضات ونضالات متواصلة منذ أن وطأت قوات الاحتلال الفرنسية أرض الجزائر في عام 1831، استبشر العرب وأحرار العالم بهذه الثورة واعتبرها أحد أبرز مفكري العرب الأستاذ ميشيل عفلق أنها "مفاجأة العروبة لنفسها" وهو ما أكدته انتصارات الثورة وتضحياتها وصولا إلى الاستقلال عام 1962. وكان رهان شرفاء الأمة وأحرار العالم على انتصار الثورة يعتمد بالدرجة الاولى على إدراكهم اأن قادة الثورة ومفجروها الأوائل نجحوا في الربط بين جملة حقائق موضوعية يمكن اعتبارها "معادلة الانتصار" للثورة حين احسنوا صياغة العلاقة بينها، وكما يمكن اعتبارها اليوم "معادلة الانجاز" للجزائر في لعب دورها التاريخي المنشود الذي يتطلع اليه أبناؤها ومعهم ابناء الامة العربية والاسلامية وأحرار العالم. - الحقيقة الأولى هي الحقيقة الوطنية الجزائرية التي استطاعت أن توحد كل الوان الطيف الاجتماعي والجهوي والفكري والسياسي في الجزائر في اطار جبهة التحرير الوطني الجزائري، فكان أبناء الجبل كما الصحراء، أبناء الساحل كما الداخل، أبناء الغرب الجزائري كما الشرق موحدين من خلال الكفاح ضد الاستعمار. - الحقيقة الثانية هي الحقيقة العربية الاسلامية للجزائر التي تمثل ترابطا عميقا بين هويتها الثقافية والحضارية العربية وبين عقيدتها الاسلامية التوحيدية، وكانت اللغة العربية، لغة القرآن الكريم هي العروة الوثقى بين الإنتماء العربي والعقيدة الإسلامية التي حفظت للجزائر عروبتها وإسلامها والتي ما زالت حتى اليوم مستهدفة من قبل أعداء الجزائر والساعين لتفتيتها. هذه الحقيقة العربية الإسلامية هي التي جعلت لثورة الجزائر مكانتها المرموقة في حياة أبناء أمتها العربية والإسلامية وباتت جزءا طبيعيا من حركة التحرر العربية والعالمية، بل وفرت للثورة عمقا استراتيجيا وسياسيا قدم لها المدد المادي والعسكري من كل أقطار الأمة دون استثناء وفي طليعتها مصر بقيادة جمال عبد الناصر التي كان دعمها للثورة الجزائرية احد اسباب العدوان الثلاثي (الفرنسي، البريطاني، الاسرائيلي) عليها، ناهيك عن قدرة هذه الثورة على توحيد الموقف العربي والإسلامي منها رغم كل ما كان من خلافات وصراعات بين العواصم العربية. ولقد تجلّت هذه الحقيقة بشكل خاص فيما بعد من موقف الجزائر من قضية فلسطين التي أعلن قادتها مرارا ان استقلال الجزائر لا يكتمل إلا باستقلال فلسطين، كما تجلى بانطلاق الثورة الفلسطينية بعد اقل من ثلاث سنوات على استقلال الجزائر، واتخاذها ثورة الجزائر نموذجا لها، وباحتضان الجزائر لاول مكتب لحركة (فتح) ومعسكر لتدريب فدائييها. وكما تجلّت هذه الحقيقة العربية الإسلامية من خلال دور مهم لعبته الجزائر في الحروب العربية، الاسرائيلية بعد استقلالها، سواء في حزيران/يونيو 1967، أو في تشرين (أكتوبر) 1973، أو في احتضان قرار "إعلان الاستقلال" الفلسطيني عام 1988، ناهيك عن رفض الجزائر كل دعوات التطبيع التي كانت تطمح الى ان تكون القمة العربية في الجزائر عام 2005 قمة التطبيع مع العدو بعد احتلال العراق وعقد المعاهدات المنفردة مع العدو الصهيوني. وتجلت هذه الحقيقة العربية الاسلامية للجزائرايضا بعد عدم انجرافها في موجة ما يسمى "بالربيع العربي" رغم الضغوط الهائلة التي مورست، وما تزال عليها. للانخراط في سياق التعامل مع الاحتلال وافرازاته في العراق بعد حرب 2003، أو في سياق حرب تدمير سوريا وليبيا واليمن بعد عام 2011، وهي مواقف تجعل من الجزائر هدفا لمخططات الاعداء، كما كانت هدفاَ لمخططات الاقتتال الدموي خلال العشرية المدمرة التي عاشتها الجزائر في العقد الاخير من القرن الفائت. - الحقيقة الثالثة هي الحقيقة الافريقية للجزائر التي تعتبر بمساحتها وعدد سكانها ومواردها ودورها من اهم بلدان القارة السوداء التي تطلع العديد من قادة حركات التحرر فيها الى الجزائر كمصدر دعم واسناد والهام لشعوبهم سواء في مواجهة الاستعمار بشكلية القديم او الجديد او متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي حقيقة تتضح اليوم، اكثر فأكثر، اهميتها بعد الاقرار العالمي بأهمية القارة الافريقية ودورها المستقبلي. - الحقيقة الرابعة هي الحقيقة العالمثالثية للجزائر التي شكلت ثورتها قبل 63 سنة احد اعمدة حركة عدم الانحياز وارادة التحرر في العالم، بل بات العديد من أحرار اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية من ارنستو تشي غيفارا إلى نلسون منديلا وما بينهما ينظرون اليها كقاعدة كبرى لحركة التحرر العالمية، خصوصا في ظل التكامل بين انتصار فيتنام على الاستعمار الفرنسي في " ديان بيان فو" في مطلع 1954، وانطلاق ثورة الجزائر في اواخر ذاك العام، بل انطلاق الثورة الفيتنامية ضد الاستعمار الامريكي في أواسط الستينات من القرن الفائت، وانتصار ثورة الجزائر التي كانت أحد القوى المساندة لشعب فيتنام كما لغيره من الشعوب. - تبقى الحقيقة الخامسة والأخيرة للجزائر وهي الحقيقة الإنسانية التي جعلت من الجزائر، وما تزال، أحد قلاع الانتصار لكل معارك البشرية بوجه كل أشكال الظلم والاضطهاد والعنصرية والاستغلال التي يمارسها اعداء الشعوب في بقاع عديدة من العالم. ولعل دور الجزائريين في المغتربات، لا سيما الأوروبية، ما يؤكد على أهمية تواصلهم مع شعوب تلك البلدان في الدفاع عن القيم والمثل الانسانية والحضارية ما يستكمل مهام ثورتهم التي اعترف مثقفون فرنسيون كبار انها حررت بلادهم وهي تحرر الجزائر، فكل خطوة تنهي استعمار دولة لأخرى، إنما تحرر الدولة المستعمرة نفسها من شرور الظلم والعدوان والاضطهاد. إن استعادة هذه الحقائق الخمس ليست مسألة تاريخية فحسب، على اهمية التاريخ في تصحيح بوصلة الشعوب، بل هي مسألة تتصل بحاضر الجزائر ومستقبلها، فكلما نجحت الجزائر، رئيساً وقيادة وأحزاباً ومجتمعاً، في استيعاب هذه الحقائق وصياغة العلاقة السليمة بينها، كلما تمكنوا من أن يحفروا للجزائر موقعا مميزاَ في مواجهات تحديات الحاضر وآفاق المستقبل بكل أبعاده.