"إن القضية المركزية التي تتطلب جهدا وطنيا شاملا ومنظما، هي إقامة نظام حكم ديمقراطي، قادر على حل مشاكل البلاد وإعدادها لمواجهة تحديات المستقبل، نظام حكم ديمقراطي يخرج الفئات الاجتماعية العريضة من دائر الإقصاء والتهميش إلى مصاف المواطنة المسؤولة الفاعلة". انقضى عامان على الحراك الشعبي، ومضت إحدى عشر سنة على الرسالة التي وجهها الأستاذ عبد الحميد مهري إلى الرئيس السابق، والتي أكد فيها أن الجزائر في حاجة إلى تغيير جذري، وأن النظام الحاكم لم يعد قادرا على مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه البلاد، ومنبها فيها إلى أن الأصوات التي تنادي بتغيير سلمي كثيرة وأن التغيير يجب ألا يتأخر. في تلك الرسالة، التي دعا فيها إلى "تغيير نظام حكم غير ديمقراطي وعفا عليه الزمن"، قال مهري: "إن ممارسات نظام الحكم نتج عنها عزوف آلاف المناضلين عن العمل السياسي، وانكماش القاعدة الاجتماعية لنظام الحكم وتضييق دائرة القرار في قمته". هذه المعاينة، من رجل حكيم وسياسي بارع، يقٍرأ الأحداث بوعي واستشراف، كانت تعبيرا صادقا عن صوت الشعب وضميره، كما كانت إيذانا بأن الجزائر في خطر. فالسياسة عند سي عبد الحميد مهري، هي يوم لك ويوم عليك، شأنها شأن كل منافسة ومبارزة شريفة، ولذلك فإنه يحمل نظرة محددة في ممارسة السياسة وفي إدارة شؤون الحكم، من شأنها إن عرفت طريقها للوجود والممارسة، أن تفضح الكثير من ممتهني السياسة وتقطع عليهم الطريق إلى سرقة حق الشعب في أن يكون سيد نفسه، وأن لا يتصدى لإدارة شؤونه العامة، إلا من يختاره وهو بكل وعي وحرية؟ السياسة عند سي الحميد مهري، لم تكن تمثيلا في تمثيل، كما أنها ليست تدجيلا وكذبا على الناس، مدرسة سي مهري في السياسة، تنبني على القناعة بأن الشعب يعرف ويدرك ما هو جار، ومن ذا الذي يكذب ومن يصدق في القول والفعل، وأضعف الإيمان في هذه الحال هو احترام ذكاء الناس، والكف عن الاستخفاف بعقولهم، قبل أن يفقد الفعل السياسي كل صدقية، وينقطع حبل الثقة بين الحاكم والمحكوم؟. تقول الرسالة: إن ساعة التغير قد حانت.. وكان ذلك اليوم، قبل عامين، تاريخا فاصلا، فهناك قبل وهناك بعد! هذا ما يقوله تاريخ 22 فيفري، الذي يؤرخ لبداية نهاية صلاحية النظام وضرورة تغييره بصورة جذرية، تنهي الحكم الفردي وسلطة الفساد، كما تقول الرسالة إن الشعب قد يمارس الاستقالة ويضع الحدود الفاصلة بينه وبين السلطة، ولكن هناك لحظة فارقة، تعلن فيها الجزائر العميقة عن نفسها ويتمرد الهامش على المركز. كان الشعب يقول، سواء كان يتمتم أو يصرخ أو يلعن في صمته، كان يقول بالسلوك والكلام والاحتجاج والعزوف الانتخابي: "افعلوا ما شئتم فإن يوم الحساب قريب". استلم الرئيس السابق الرسالة، قد يكون قرأها وقد يكون تمعن فيها جيدا، لكنه بالتأكيد لم يولها أي اهتمام، لأن كرسي الحكم يعمي البصيرة. في ذلك اليوم، قبل عامين، قرر الشعب أن يعيد صناعة تاريخه وأن يعيد الاعتبار إلى ذاته وأن يستعيد دوره في بناء وطنه، وكأنه يصدح بقراره: هذا هو وقت الرفض ولا مجال للحياد! وهكذا لبى الشعب نداء الوطن، هب المواطنات والمواطنون على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، لأن المعركة- وهي السلمية بامتياز- هي قضية الجزائر. لم يسأل الرئيس- الذي كان- نفسه: ألا تكفي السنوات العشرون، التي قضاها حاكما للبلاد، لكي يستريح ويريح. وعندما تغيب الأسئلة المحرجة، التي تنبع من الوعي، تغيب الحكمة وتحل محلها الغفلة، التي تؤدي إلى السقوط!. ولم يدرك الرئيس أن هناك ما يشبه "الصمت المتحرك"، الذي سيتحول إلى زلزال مدمر، يهوي بالرئيس وبمن حكموا معه أو اختطفوا الدولة باسمه! ذلك التاريخ، الذي هناك قبله وهناك بعده، أسقط المعبد على من فيه، وإذا الرئيس، الذي كان يصنع الحدث، ينتهي تلك النهاية المأساوية.. هكذا قرر الشعب. لم يكن الرئيس يسأل نفسه: من الذي يقود الدولة، لأن طاقته البشرية لم تعد تسمح بمجرد طرح السؤال، في هذا الوقت، كان الشعب يسأل: من هو المسؤول في البلاد، ومن هو الذي يصدر قرارات العزل والتعيين، ومن أين جاءت هذه الآفات التي تنهب مال الشعب واستولت على الدولة؟ ولم يكن الجواب خافيا على الشعب، بل كان حاضرا في ذهنه، حتى جاءت اللحظة الحاسمة، التي وجد فيها "الرئيس " نفسه يرمى به في نهاية مأساوية، فإذا هو وحيد في مأزقه. خرج الشعب بالملايين يطالب النظام بالرحيل، إنها النهاية المحزنة لذاك الذي نسي أو تجاهل موعد الخروج، وإذا به يصبح "رجل الانكسار"، بعد أن كان يحلم بأن يكون "رجل الازدهار"، لكنه لم يدرك أن ساعة الرحيل قد حانت. تقول الدروس المفيدة من التاريخ، إن القادة الذين لا يقدرون وقت المغادرة، فإنهم يفقدون أدوارهم ولن يعود لهم ما ينطقون به، بل إن الهزيمة المذلة هي التي تنتظرهم. لكن الرئيس- الذي كان- واصل السير نحو الهاوية، في تجاهل تام لما يحدث من حوله، كان الغضب يتجمع ويتراكم من واقع أثقل كاهل المواطن أمام متطلبات الحياة، استشرى الفساد، الذي لم يعد قادرا على تغطية نفسه، وكلما زاد الفساد، ارتفعت درجة الغضب، حتى ولو كان صامتا، لكنه ما لبث حتى انفجر عبر شارع جديد، على امتداد كل ربوع البلاد. كانت الدولة مختطفة، وكان الشعب مغيبا، وكان الوطن منهوبا، لكن الشعب يظل "الرقيب اليقظ". هنا يقول مهري في رسالته المرجعية، التي أهملها الرئيس آنذاك ولكن التاريخ يحتفظ بما تضمنته من دروس، يقول:"إن الأصوات المطالبة بتغيير هذا النظام، والحريصة على أن يتم هذا التغيير في كنف السلم والنقاش الحر، كثيرة، والنذر التي تنبه لضرورة هذا التغيير ظاهرة للعيان منذ سنوات عديدة، بقدر لا يمكن معه التجاهل أو التأجيل". وتضيف الرسالة: "إن الخطاب الرسمي، في مستويات مسؤولة، يخطئ، أو يتعمد الخطأ، في قراءة الأحداث، ويهون من تأثيرها، وينكر دلالتها السياسية الكبرى بدعوى أن المطالب المرفوعة من طرف المتظاهرين لا تتضمن أي مطلب سياسي. وغرابة هذه القراءة والتحليل تتجلى عندما نتصور طبيبا ينتظر من مرضاه أن يكتبوا له وصفة العلاج". يقول درس الحراك الأصيل: إن النظام، الذي ينصت جيدا لصوت الشعب، سواء كان مسموعا أو خافتا أو صامتا، نتيجة الكبت والخوف والقمع، محكوم عليه بأن يتلقى الضربة القاضية، في منعرج ما، من جهة لم يكن ينتظر منها أن تتحرك أو تتمرد. ويقول درس الحراك الأصيل: إن الشعب قد يغفو ولكنه لا ينام، قد يمرض لكنه يظل مسكونا بنبض الحياة، وقد سجل سابقة في تاريخ الشعوب، من حيث سلمية حراكه وحضاريته، مؤكدا حضوره الواعي وحقه المشروع في نظام حكم ديمقراطي وعادل. أما المهم، فهو أن الحراك قد حقق مكاسب هامة، على طريق بناء جزائر جديدة، وأن الجزائريين، قد انتقلوا من الخاص إلى العام، بعد أن اكتشفوا أن لهم صوتا يمكنه أن يرتفع ويؤثر، كما أنهم استعادوا الأمل في بلادهم، بل إن الوعي الوطني اغتنى ببعد جديد، هو الوعي بوطن، فهل تراها تستمر هذه الحالة، من حيث إيجابياتها البارزة، حتى تتجلى عبقرية الشعب في بناء بلاده، وإقامة دولة حديثة وعادلة، على قاعدة صلبة من القانون. وكانت آخر فقرة في رسالة المرحوم عبد الحميد مهري، تقول: "إن الجزائر مقبلة للاحتفال بذكرى الاستقلال، وأعتقد أن الوقت كاف لاتفاق الجزائريين على التغيير المنشود، وأحسن هدية تقدم لأرواح شهدائنا الأبرار هو الاحتفال بذكرى الاستقلال والشعب الجزائري معتز بماضيه ومطمئن على مستقبله". أليست هذه هي الرسالة، التي تبناها الحراك الأصيل في 22 فبراير، ولعله من حسن الصدف أن تكون رسالة مهري مؤرخة في 22 فبراير، والتي خلص فيها إلى القول:"إن القضية المركزية التي تتطلب جهدا وطنيا شاملا ومنظما، هي إقامة نظام حكم ديمقراطي، قادر على حل مشاكل البلاد وإعدادها لمواجهة تحديات المستقبل، نظام حكم ديمقراطي يخرج الفئات الاجتماعية العريضة من دائر الإقصاء والتهميش إلى مصاف المواطنة المسؤولة الفاعلة". الحراك بعد عامه الثاني، إلى أين؟.. سؤال يجب الإجابة عنه في نجاح الرئيس تبون في تجسيد تعهداته، فكلما حقق إنجازا أو جسد مطلبا، كلما كسب أنصارا، وكلما حول "الشعلة المتوهجة" في الشارع إلى مكاسب وإنجازات، كلما استطاع أن يمتص تلك الشحنة التي تحرك الحراك، وقد تحقق الكثير منذ انتخاب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية، ويصح القول إن جزائر اليوم أفضل بفضل الحراك الشعبي الأصيل. أول الكلام "على السلطة أن تبحث دائما عن الشعب وعما يرضيه.."