تساؤلات تطرح، ماذا بعد نظام القذافي، التداعيات المحلية والإقليمية والدولية التي يمكن أن تنتج عن انهيار نظام ليس له من شبيه في عالمنا المعاصر!؟ أكيد، ما يحدث في ليبيا، أيا كان مخرجه، ستكون له تأثيرات على أصعدة متعددة•• وإذا كان الغرب ينظر إلى هذا البلد على أنه مجرد خزان للطاقة،، وخزنة للاستثمارات•• وكيس لملايير الدولارات تنفق ببذخ لتبييض صورة سلطة متسلطة، فإن البعض يتساءل عما يمكن أن ينتج عن فراغ جهوي من تداعيات على المنطقة؟• بلدان الجوار في المحل الأول، ثم الدول الكبرى تكون قد فكرت فيما يمكن أن تؤول إليه المنطقة انطلاقا من التفكك الذي تشهده أجهزة ومؤسسات أقامها نظام على مقاس واحد، مؤسسات هي في المقام الأول هيآت أمنية ومخابراتية وميلشيات تتزاحم وتتنافس بينها أغلب الأحيان، وتتعامل، أو على الأقل كانت تتعامل مع كل الحركات المتطرفة والإرهابية والانشقاقية عبر العالم، وأساسا في منطقة الساحل التي كانت دوما ميدانه المفضل لنشر الفوضى والاضطرابات منذ سبعينات القرن الماضي• إنه بالفعل هاجس، غير أنه كان دوما كذلك، وليس بالجديد بالنسبة لهذه الرقعة الجغرافية التي يطلق عليها الساحل والتي كانت دوما ميدان العقيد القذافي لنشر الفوضى والاضطرابات ليس فقط مع دول الجوار الضعيفة الفقيرة التي تنقصها الإمكانيات وتعاني الفقر والبؤس•• إنما دمر النسيج الاجتماعي لعلاقات إنسانية بين مكونات سكان هذه المنطقة الواسعة وهي علاقات نشأت منذ قرون من التعايش والتبادل بين مكونات عرقية لم تكن يوما متصارعة، بل كانت تتبادل المنافع وحسن الجوار والتجارة والمقايضة، وامتداداتها الإنسانية كانت تتعدى الحدود، لكنها كانت تعيش مع بعضها في تجانس تام• طموحات الرجل أو مطامعه، أو جنونه وهلوسته، دفعا به منذ البداية إلى زرع بذور الفتنة والفرقة بين المكونات البشرية لهذا الفضاء الواسع والإخلال بأمنه وخلق نعرات وحزازات بين كل مكوناته البشرية•• وقد نجح في ذلك إلى حد بعيد من خلال ما أحدثه من خلل في العلاقات والمعاملات التي كانت تسود المجتمعات المحلية في الساحل بمختلف تركيبتها وأعراقها• نجح حين بدأ في اصطناع حزازات وصراعات، وقد ساعده في ذلك عاملان، الإمكانيات المادية التي يغري بها بعض الأفراد ثم المجموعات، والحاجة والفقر الذي كان سمة كل سكان تلك المناطق وخاصة منهم بعض الأقليات العرقية التي كانت تعاني من سلطات دولها المركزية في بلدان جنوب الصحراء• وكانت بداياته لتفكيك المجموعات البشرية المتماسكة في المنطقة وهي مجموعات تنتمي لكل الدول المتاخمة من حيث التواجد الجغرافي والجنسية، لكنها تعتبر نفسها دوما مجتمعا واحدا وبينها تضامن وأواصر المصاهرة وعلاقات تعاون وتكامل، وكانت خطته الأولى إطلاق شعار دولة الطوارق والدولة الصحراوية الكبرى ، وحاول بالإغراءات والمؤامرات والتهديد خرق التماسك الاجتماعي المتأصل وتفكيك أواصر التضامن التي تميز العلاقات المكونة لهذه المجموعات• أكيد لقد خلق بعض الصعوبات والنزاعات، وفي كل مرة يستعدي هذا الطرف على ذاك، ويتحالف مع هذا أو ذاك، ويعادي هذا ويصالح ذاك، ويخلق مجموعات يشحنها ويدعمها بالمال والسلاح ليس فقط للتمرد على السلطات المركزية في مالي والنيجر وتشاد، مثلا، إنما للتقاتل فيما بينها•• الوضع الذي تعيشه منطقة الساحل حاليا كان سسبه الرئيسي سياسة العقيد في المنطقة، والبذرة الأولى للتنظيمات الإرهابية في المنطقة هو الذي أوجدها•• ورغم شساعة هذا الفضاء وقلة سكانه لم يكن في يوم ما عبر التاريخ منطقة تنظيمات إجرامية، ومنطقة تهريب للمخدرات ومنطقة جريمة منظمة، ومنطقة منظمات لاختطاف الأجانب ومقايضتهم بالأموال• قد تكون هناك، قبل وجود القذافي مشاكل، لكنها إن حدثت فهي بالأساس بين القبائل، إما بسبب مناطق الرعي أو مناطق الزراعة والفلاحة وقد يصل الأمر حد التقاتل، لكن العقلاء سرعان ما يتدخلون لفض النزاعات • تلكم بعض حقائق التاريخ قبل أن يحشر القذافي منذ سبعينات القرن الماضي وأساسا منذ الثمانينات أنفه في شؤون المنطقة، وأجد نفسي أشعر بالغيض والضحك حين يتحدث العقيد عن تنظيم القاعدة، ويقول إن فلوله هي التي تبث الفوضى في ليبيا، ذلك أن ذاكرة هذا الرجل إن كانت له ذاكرة أصلا ضعيفة جدا، أليس أول من خلق اللفيف الإسلامي في المنطقة، هو نفسه الرجل الذي يتهم الإسلاميين بأنهم يستهدفون نظامه ويسعون لإقامة إمارة لهم في ليبيا؟ ولنسلم جدلا بهذه المقولة، وقد تكون بعض التيارات الإسلامية المتطرفة تتمنى هذا، لكن أليس هو القذافي نفسه كما غيره، كان يحتضن، أو على الأقل يغض الطرف عن نشاط وتواجد الإسلاميين الجزائريين في ليبيا وهم الذين كانوا لا يخفون ممارسة الإرهاب باسم الجهاد؟• في كل هذا، فإن السؤال الكبير الذي يؤرق، وأعتقد أن كل العواصم في المنطقة أساسا، وفي الغرب بالأخص يبحثون عن إجابة له•• ماذا سيحدثه الفراغ في هذا الفضاء الجغرافي الكبير الذي يمتد من ليبيا إلى كل منطقة الساحل؟ ويتبعه أساسا سؤال آخر كبير، مآل المنطقة واستقرارها من خلال الأخطار التي تشكلها ترسانة القذافي من الأسلحة التي هي الآن في فضاء مفتوح أمام احتمال كبير لتسربها إلى تنظيمات إرهابية وتنظيمات الجريمة المنظمة وعصابات التهريب، والمرتزقة الذين دربهم نظام القذافي لعقود من أجل استخدامهم لزعزعة بلدان المنطقة• والكثير منهم إن كانوا يقاتلون مع كتائب القذافي فهم سيتحولون إلى طلقاء نتيجة الفوضى التي يتخبط فيها النظام حاليا•• خيارات محدودة فعلا، للتعامل مع هذه الأزمة وتداعياتها، ومن الصعب التعاطي معها بمواقف متسرعة وبعيدا عن الواقع على أرض ميدان المعارك الذي لم يحسم بعد، لكن من الناحية المعنوية هو في صالح المنتفضين والثوار، حين ننظر إلى الخلل الكبير في موازين القوى بين ما يملكه العقيد وما يتوفر لدى المتظاهرين الرافضين لنظامه، فإن معضلة دخول ليبيا دوامة الفوضى واللااستقرار وربما حتى الحرب الأهلية تبقى واردة•• وعودة إلى الفكرة الأساسية لهذه العجالة•• ماذا بعد؟ إن التخوف من اللاإستقرار هو أمر وارد•• لكن المنطقة كانت، نسبيا بل إلى حد بعيد مستقرة، قبل أن يعمد القذافي إلى تفخيخ أوضاعها منذ عقود، كما أن التخوف من الفراغ وارد، غير أن نظام القذافي هو الذي يتحمل المسؤولية في كلتا الحالتين، اللااستقرار الذي وجده والفراغ الذي سيحدثه•• والنظام من خلال الرفض الشعبي زائل لا محالة•• وأعتقد أن التعامل مع هذه الحقيقة يفرض نفسه، وهو ما فهمه العالم كله والغرب أساسا، وهو الذي كان لأسابيع في حالة شهر عسل مع العقيد!! الوضع في هذه الحالة يشبه المنشار: يأكل في الإتجاهين ويقطع، لكن قد ينحرف ويقطع أطرافه، وهو احتمال وارد•• بل هو واقع!؟