من أسبوعين تساءلت في نفس هذه المساحة لماذا لا ينتحر القادة العرب؟ وحاولت أن أربط بين سلوكات وأخلاق القادة الغربيين الذين يبذلون كل جهدهم ويضحون فعلا من أجل إسعاد شعوبهم ويستقيلون، أو ينتحرون، عندما يعجزون عن القيام بواجباتهم أو تمس سمعتهم، قارنت بين هؤلاء وبين القادة العرب الذين خربوا أوطانا ودفعوا بأخرى إلى جحيم الإرهاب أو إلى أحضان القوى الخارجية ومع ذلك لم نسمع أن أحدهم استقال أو حتى شعر بتأنيب الضمير. أحد القراء الأوفياء بعث إلي برسالة قصيرة على هاتفي يقول لي فيها بأن القادة العرب لا ينتحرون لأنهم جبناء. قارئ آخر قال، في رسالة على الإيمايل، بأن القادة العرب هم من ذلك الصنف من البشر الذي يتلذذ بحقرة شعوبهم المغلوبة على أمورها بينما نجدهم ينبطحون أمام أسيادهم الأوروبيين. المهم، مهما كانت الآراء حول نفسيات وسلوكات هؤلاء القادة، فقد جاء تصريح الرئيس المصري المطاح به حسني مبارك ليؤكد ما ذهبنا إليه في موضوعنا السابق. حاكم مصر السابق، صرح أثناء التحقيق معه، حسب ما جاء في الصحف المصرية، بأنه فعلا لم يعد يتابع أمور الدولة المصرية أو يهتم بالسياسة منذ أن توفي حفيده محمد منذ سنتين وهو في سن الثانية عشر. مسكين الريس المصري، فحزنه على وفاة حفيده الصغير جعله يهمل أمور الدولة وشؤون الرعية تاركا المجال لولديه ولزوجته ومقربيه ليعيثون فيها فسادا. إذا كان حسني مبارك هو إنسان قبل كل شيء ومن حقه أن يحزن وأن يشعر بالألم وأن يكره كل الدنيا وما فيها على إثر فقدان أحد الأقارب فأنه ليس من حقه أن يفرط، وهو رئيس الجمهورية، في أمور الدولة بل أن يسمو بنفسه فوق كل الأحزان وفوق كل القضايا الشخصية والعائلية وإن عجز عن ذلك فقد كان عليه أن يستقيل تاركا الحكم لمن هو أقل سنا منه وأكثر قدرة على تسيير أمور الدولة. العجيب في الأمر أن رئيس مصر السابق لم يحزن على الألفين من المهاجرين المصرين الذين غرقوا في يوم واحد في عبارة تفتقد لكل شروط النقل البحري ولا أهتم بالمئات من أطفال غزة الذين تسبب في موتهم عندما قرر غلق كل المعابر إلى قطاع غزة وحرمهم من الحليب والدواء بل وشجع العدوان الصهيوني على قتل الفلسطينيين. مشكلة الحاكم العربي هي أنه مقتنع بأنه يقدم تضحية كبيرة للأمة لأنه قبل بأن يكون رئيسا لها. هذا المنحى الخطير لمسناه في كلام الرئيسين المعزولين زين العابدين بن علي وحسني مبارك. كلاهما قال، في خطابه الأخير الموجه للأمة، بأنه ضحى بكذا سنة من عمره في خدمة البلد. الغريب أن كلاهما سعى بكل ما أوتي من قوة إلى المنصب الرئاسي وكلاهما تشبث به وزور الانتخابات وسجن المعارضين وعذب أصحاب الرأي الحر وكل من تجرأ بالمطالبة برحيله وكل ذلك للبقاء أطول مدة ممكنة في السلطة. أمام الأوضاع المزرية في المنطقة العربية، كثيرا ما نتساءل إن كان الفساد والاستبداد هما طبيعة ثانية لدى الإنسان العربي، وبحثا عن الجواب الشافي في حاضر مأساوي نضطر للهروب، أحيانا، إلى الخلف أي إلى التاريخ للبرهنة على أننا في الأصل أمة كان لها حكامها المخلصون الذين بهروا عالم ذلك الوقت ببساطة الحياة التي عاشوها وببعد النظر لديهم وبتقديسهم للمسؤولية التي تحملوها. أليس عمر بن الخطاب هو القائل بأنه لو عثرت بغلة في العراق فأن الله سيحاسبه عنها يوم القيامة لأنه لم يبلط الطريق حتى لا تقع؟. حتى في الزمن الحديث، عرفت الأمة العربية بعض الرجالات الذين جعلوا المصلحة العامة فوق كل اعتبار عائلي. في مصر، أبعد جمال عبد الناصر كل أفراد عائلته عن السلطة ولم يميزهم في شيء ولم يكن الشعب المصري يعرف أبناء الرئيس جمال عبد الناصر أو يسمع عنهم؛ وفي الجزائر، أشتهر هواري بومدين بضغطه الشديد على أفراد أسرته فلم يقرب منهم أي أحد ولم يسمح لهم بالاقتراب من دوائر السلطة أو الاستفادة من علاقتهم به لتحقيق أغراض شخصية. ذاك كان زمن العظماء ثم جاء بعدهم رجال لا يفرقون بين ما هو لهم وما هو للشعب فنهبوا دولهم ومنحوا المناصب العليا لأفراد عائلاتهم وفضلوا الاهتمام بشؤونهم وشؤون أسرهم على رعاية مصالح المواطنين والدولة. إنها فئة من الحكام، دوختهم السلطة فاعتقدوا أنها دانت لهم ولذريتهم ولأفراد عائلاتهم من بعدهم. بعضهم سير شؤون الحكم بعقلية شيوخ القبائل الذين لا يرون في السياسة سوى أنها مؤامرات دائمة ضد كل الذين يختلفون معهم، وبعضهم سيرها بعقلية حكام زمن الانحطاط الذين كانوا يقضون الساعات في الاستماع للمدح وكلما أعجبتهم كلمات متملق أمروا بمنحه كذا ألف دينار أو تعيينه في منصب سياسي؛ هؤلاء اعتبروا الحكم عبثا فأضعفوا بمزاجهم واستبدادهم دولا عربية كان يحسب لها ألف حساب وجعلوها كبيوت العاهرات يأتيها الصهاينة والعملاء وحثالة المجتمعات الغربية من كل جهة. إنه رهط من الحكام الذين زوروا الانتخابات واستباحوا كل المحرمات وتاجروا حتى في أعراض شعوبهم وخذلوا أحرار بلدانهم وزوروا التاريخ ليمنحوا لأنفسهم أدوارا لم تكن أبدا لهم؛ هرموا في الحكم، ولم يفكروا يوما بأن عليهم أن يغادروا بشرف من أجل صالح البلد الذي عطلوا كل نشاط إيجابي فيه. هم لم يدركوا بأنهم ليسوا آلهة ولا هم بقديسين حتى فاجأتهم الانتفاضات الشعبية التي كنست بعضهم في أسوأ صورة وجعلتهم أذلة يستجدون عطف الشعب عله يكف عنهم. من ظن يوما أن زين العابدين بن علي يهرب من بلده ليعيش خائفا من المتابعة القضائية ومن فكر لحظة بأن حسني مبارك الذي كان يسير بعنجهية ظاهرة أمام كاميرات التلفزيون يصبح محل تحقيق قضائي وتهم الواحدة منها تؤدي إلى الحكم بالإعدام، ومن تجرأ من المواطنين الليبيين يوما أن يكلم نفسه سرا في إمكانية التمرد على معمر القذافي؟ إنها حركية جديدة تعم العالم العربي ويخطئ كثيرا من يعتبرها مجرد عاصفة عابرة فلا يستخلص الدروس في الوقت المناسب ليغادر قبل أن يكنس كغيره ممن كنسوا لحد اللحظة.