حالة استنفار عاشتها البلاد بسبب الترويج لاحتجاجات عارمة، تعم كل جهات البلاد في ال 17 سبتمبر، ورغم الحصانة التي اكتسبتها الجزائر، بسبب مسار الإصلاح السياسي والدستوري الذي سلكته، والذي يبدو جديا حسب أكثر مراقبين من الداخل والخارج، فإن محاولة إدخال البلاد في أتون الحرب الأهلية تحت بمسمى »الثورة« والتغيير الديمقراطي أخذ على محمل الجد بالنظر إلى طبيعة الرهانات الإقليمية والدولية التي تخدم سيناريو جهنمي هدفه إدخال المنطقة العربية في موجات من العنف تؤسس لأنظمة جديدة موالية للغرب. بدا منذ الوهلة الأولى أن الأمر إنما يتعلق بمخطط لإثارة الشارع الجزائري، وبمعنى أخر إشعال فتيل الانفجار في الجزائر، ووضع اللبنة الأولى لفتنة تهلك الحرث والنسل وتلقي بالبلاد في أتون حرب أهلية مدمرة تتجاوز في بشاعتها تلك التي عاشتها البلاد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مع اندلاع مسلسل العنف المسلح الذي خلف أزيد من 200 ألف قتيل، وما يزيد عن 20 مليار دولار من الخسائر حسب رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة نفسه، عنف فوت على الجزائريين عقودا من التنمية، وأعاد البلاد إلى الخلف، وخلف أثارا نفسية مدمرة لا يزال المجتمع يعاني منها رغم ما بذل من جهد في إطار مسعى المصالحة ومعالجة مخلفات المأساة الوطنية. الهاجس من الزج بالبلاد في متاهات العنف ظهر جليا من خلال حالة الاستنفار التي عشتها البلاد قبيل موعد السبت، وقد رفعت مصالح الأمن الجزائرية من درجة تأهبها، وووجه اللواء عبد الغني هامل المدير العام الأمن الوطني، برقية عاجلة إلى جميع وحدات الأمن، يحثها فيه على ضرورة رفع حالة التأهب، والاستعداد تحسبا للاحتجاجات،وشددت البرقية أنه على الجميع الذهاب إلي أعمالهم، مع إلغاء العطل، وضرورة تبني مخطط أمني دقيق، من خلال الانتشار الواسع، وتوزيع التشكيل الأمني المكلف بضمان الأمن العمومي، إلى جانب تكثيف عدد الدوريات، وتكثيف التعزيزات الأمنية في جمع مداخل ومخارج الولايات والأحياء والشوارع. ومن جهة أخرى كشف وزير الدولة وزير الداخلية دحو ولد قابلية بشكل مباشر وصريح، لا لبس فيه، بأن وراء الدعوى إلى التظاهر جهات صهيونية، وربط الوزير بين تاريخ ال 17 من سبتمبر والتوقيع على معاهدة كامب ديفد ومجزرة صبرة وشتيلا، وحتى وإن لا أحد يدري بالضبط طبيعة المعلومات التي بحوزة الحكومة والتي جعلتها تحسم بشكل رسمي بان وراء الترويج على شبكة التواصل الاجتماعي »الفايسبوك«، لمظاهرات تعم البلاد في ال 17 سبتمبر جهات إسرائيلية، فإن الكثير من الشواهد تذهب في نفس الاتجاه، وقد سبق لمصادر إعلامية أن كشفت بان مصدر الترويج لهذه الفتنة هي بنغازي الليبية، وبطبيعة الحال فإن بنغازي مجرد محطة لضرب امن واستقرار الجزائر ونقل عدوى الفتنة التي لا تزال تدمي الليبيين إلى الجزائر، وتحديد مكان التأمر داخل ليبيا لا يعني بأن الليبيين هم وحدهم من يقف وراء المسألة بل إن ليبيا قد أصبحت مستباحة منذ اندلاع المواجهات بها، ووجود الإسرائيليين، وأكثر من جهة غربية، فرنسية وبريطانية وأمريكية على التراب الليبي في شكل عسكري أو أمني أو استخباراتي أمر معلوم لا خلاف حوله، علما أن الناطق باسكم المجلس العسكري الليبي العقيد أحمد باني كان أول من قدم تاريخ 17 سبتمبر للتظاهر في الجزائر. تكرار اسم الفيلسوف اليهودي الفرنسي، برنار ليفي، الذي ظهر مؤخرا خلال زيارة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والوزير الأول البريطاني لليبيا، وهو يلوح بيده لتحية الجموع التي جيء بها لاستقبال الملاك الحقيقيين لما يسمى ب »الثورة الليبية«، يجعل التورط الصهيوني في إثارة الفتن العربية أمر مسلم به، ولقد حذرت الكثير من المصادر من اليد الإسرائيلية الخفية ولفتت الانتباه إلى تحركات الكاتب والفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي اليهودي في المنطقة العربية، ونقلت بعض وكالات الأنباء عن الكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي أنه حمل رسالة شفوية من المجلس الانتقالي الليبي إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تطمئنه أن ليبيا ما بعد القذافي سوف تقيم سلاما وعلاقات طبيعية مع إسرائيل. الخوف من إدخال الجزائر في متاهة الاحتجاجات مبرر وإن توفر بعض الأدوات لتحصين البلاد من جهنم الفتن العربية، وبداية لابد من الإشارة إلى أن الجزائر مرت بهزات كثيرة منذ أشهر، ولا تزال تعيش احتجاجات محلية بسبب السكن والتهميش والشغل وبسبب حوادث عابرة سرعان ما تخرج المواطنين ويتحول الشارع إلى حلبة مصارعة، أو ميدان معركة شرسة بين المحتجين وقوات الأمن، وظهر جليا بأن الحكمة التي التزمت بها السلطات في مواجهة الاحتجاجات والتي جنبت البلاد إراقة الدماء فوتت على الذين راهنوا على نقل الفتنة بعد استتباب الأمر تقريبا في ليبيا إلى الجزائر. لقد أكدت الحكومة من خلال حزمة المشاريع التي تمت المصادقة عليها على مستوى مجلس الوزراء في دورته الأخيرة، والمتعلقة بقانون الإعلام وتحرير القطاع السمعي البصري، وقانون الانتخابات والأحزاب، بأن هناك إرادة حقيقية للذهاب نحو إصلاح جدي ينقل البلاد نحو مرحلة من الممارسة الديمقراطية الحقيقية، ويمكن من توسيع مجال الحريات واحترام حقوق الإنسان، ناهيك عن تكريس حرية التعبير وتحصينها أكثر، علما أن الجزائر تعيش حرية حقيقية في مجال الإعلام والصحافة، وما كان ينقصها فقط هو أن يحصن رجل الإعلام من الملاحقات القضائية. لقد بدا جليا أن هناك رغبة في فتح باب الحريات على مصراعيه، فتحرير قطاع السمعي البصري، بعد سنوات من الجدل والنقاش الذي اظهر تخوفا واضحا من المزالق الممكنة والتي قد تضر بالمصالح العليا للبلاد، سوف يتيح إنشاء عدد كبير من القنوات التلفزيونية والإذاعية وفق دفتر أعباء واضح، ومن غير اللائق الحديث عن الخوف من هذه الخطوة، بل على العكس من ذلك تماما، فإن فتح القطاع السمعي البصري وتمكين المشاهد الجزائري من عدد كبير من القنوات يندرج ضمن تحصين الأمن القومي للبلاد، وما تقوم به بعض الفضائيات العربية من دعاية للفتن، والترويج الكاذب للأخبار والانتقائية المقصودة يجعل مسألة إنشاء قنوات إذاعية وتلفزيونية أكثر من ضرورة. لقد رحبت جل الأحزاب بتحرير القطاع السمعي البصري وما تضنه قانون الأحزاب من تعديلات مهمة، رغم تحفظ أوجه المعارضة، فإن الحاصل هو خطوة جبارة في اتجاه التأسيس لحياة سياسية ديناميكية وسليمة، ولفعل سياسي يخدم التوجه الديمقراطي، ويندرج ضمن تكريس الشفافية وضمان نزاهة العملية الانتخابية في المستقبل. أهمية الإصلاحات التي صادق عليها مجلس الوزراء الأخير لا يعني في الواقع بان المهمة انتهت وان انتقال الفتنة إلى الجزائر قد أضحى من المستحيلات، فرغم الظروف الجيدة التي هيأت للدخول المدرسي لهذا السنة، لا زال الدخول الاجتماعي لم يكتمل، ولا تزال موجات الغضب تجتاح الكثير من القطاعات ، و يتطلب المزيد من الحيطة ومن الحذر، والكثير من العمل في اتجاه نقل البلاد إلى مرحلة تتكرس فيها الممارسة الديمقراطية وينتهي معها الإقصاء والتهميش، لتتفرغ البلاد لقضايا التنمية التي تعتبر أساس أي استقرار سياسي واجتماعي وحتى أمني. وتشير بعض التحاليل، من جهة أخرى بأن الأزمة الليبية قد تصبح مزمنة، فرغم حسم المعركة على الحكم مع قوات العقيد معمر القذافي، واستلاء المعارضة على طرابلس، ومواصلة حصارها لبن وليد وسيرت، في ظل تقارير حقوقية خارجية، خاصة تلك التي أصدرتها »هيومن رات ووتش« التي تتهم قوات الانتقالي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تشير الكثير من المعطيات بأن ليبيا مرشحة لفصول قد تطول من حرب الاستنزاف التي توفر التربة المناسبة لجهات أخرى لتحويل ليبيا إلى قطعة من اللهب، فهناك تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي الذي وجد في ليبيا مستقرا له يفر له الرجال والمال والسلاح، وهناك قبائل التوارق التي تلوح هي الأخرى بالعودة إلى العمل المسلح في المنطقة. وتشير التصريحات الأخيرة للمسؤول السابق على مديرية مراقبة الإقليم »الدي أس تي«، الاستخبارات الفرنسية الداخلية، إيف بوني، أن ما جرى في ليبيا كان مخطط له منذ سنوات، وتحركه مصالح مادية تتعلق بالبترول وبالحصول على استثمارات كبيرة في ليبيا، بل إن بوني قال صراحة أنه لو قبل القذافي شراء مقاتلات »رافال« التي عرضها عليه ساركوزي لما دخلت فرنسا الحرب ضده، وذهب أبعد منذ ذلك لما اعتبر بأن فرنسا خسرت شرفها ومبادئها في ليبيا، وأنتقد بوني ما يسمى بالمجلس الانتقالي الليبي معتبرا بان المعارضة التي استولت على الحكم في طرابلس بطريقة غير شرعية لا تحوز حتى على شرعية الحرب لأن الحلف الأطلسي هو من قام نيابة عنها بالحرب ضد النظام الليبي. بوني أكد بمنتهى الوضوح بأن خطر المتطرفين وخطر القاعدة في ليبيا حقيقة، وهو موقف يستند إلى معطيات خطيرة تتحدث عن حصول المجموعات الإرهابية على كميات كبيرة من الأسلحة، وأن من يسمون ب »بالجهاديين« قد أصبحوا فعلا رقما فاعلا على الساحة الليبية لا يمكن تجاهله، وما يحصل من نزاع بين أطراف المجلس الانتقالي وبين هذه الهيأة والمقاتلين المتواجدين في الميدان، يؤكد هذه الأطروحة، مع الإشارة إلى أن خطر التطرف في ليبيا سوف يمتد لا محالة إلى دول الجوار، وقد حذرت الاستخبارات الأمريكية من احتمال استهداف »القاعدة« في الجنوب لطائرات الشركات البترولية الأجنبية عن طريق صواريخ ارض جو من طراز »سام 7«، و»سام 5«، جلبتها من ليبيا.