تتعاطى الدول الغربية مع الاحتجاجات الاجتماعية في الجزائر بأسلوب خطير، فحتى وإن عدلت واشنطن من خطابها، أو لعبت مجددا على وتر المشاعر بالقول أن الجزائر تشكل حليفا استراتيجيا لها في شمال إفريقيا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب، أو أثنت على بعض الخطوات التي تم اتخاذها مؤخرا على غرار رفع حالة الطوارئ، يبقى الموقف الأمريكي تطغى عليه نزعة التدخل في الشأن الداخلي للجزائر، وما قالته مسؤولة الدبلوماسية الأمريكية هيلاري كلينتون لما دعت السلطات إلى ضبط النفس ووعدت المحتجين بالنصر، يؤكد ربما صحة الأطروحات التي تربط بين »ثورات الشارع العربي« وسيناريوهات لتنفيذ أجندة أمريكية وغربية في العالم العربي والإسلامي. انتقلت حمى الاحتجاجات الشعبية إلى الجارة ليبيا، بحيث شهدت العديد من المدن خصوصا بنغازي اضطرابات عنيفة، وخلف قمع المظاهرات التي لم تعرف ليبيا شبيها لها من قبل مقتل أكثر من 80 شخصا، حسب مصادر أجنبية. وخلفت المواجهات مع قوات الأمن العديد من الجرحى، وظهر جليا، وربما خلافا لما اعتقده البعض، أن الليبيين كانوا ينتظرون الفرصة السانحة للثورة ضد نظام طغى عليه الطابع البدائي وضد زعيم حكم البلاد أكثر من 40 سنة وصل إلى السلطة بفضل ثورة على نظام السنوسي. لقد طرحت احتجاجات ليبيا وإن واجهتها السلطات بعنف شديد، وخرج القذافي هو الآخر على رأس مظاهرة تتشكل من أبناء عشيرته لمواجهة معارضيه، تساؤلات كثيرة عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه، وهل بمقدور الليبيين الإطاحة بنظام بدا أقوى من أي نظام آخر في المنطقة العربية بفضل سيطرته على مفاصل المجتمع عبر ما يسمى باللجان الشعبية، وبفضل المال الكثير الذي تتوفر عليه خزائن نظام ريعي يجني الملايير من الدولارات من عائدات النفط، ويحكم بلدا شاسعا مترامي الأطراف تقل نسبة سكانه عن النسبة التي نجدها في أي مدينة متوسطة في العالم فما بالنا بالعواصم الكبرى مثل القاهرة. لقد تتبع الجميع التصريحات التي أطلق الزعيم الليبي مباشرة بعد فرار بن علي تاركا تونس تغرق في الانفلات الأمني والفوضى، ولام القذافي الشعب التونسي على التعجيل بإزاحة زين العابدين بن علي وقد كان بإمكانهم -كما قال- انتظار الانتخابات الرئاسية للتخلص منه، وهو رد سخر منه الكثيرون لمضمونه الذي لا ينسجم في الواقع مع الأحداث ومع التحديات، لكن يبدو أن القذافي فهم أكثر من غيره بأن الرئيس التونسي لن يكون الوحيد الذي يواجه الشارع، وأن ما حصل ليس إلا بداية لحملة سوف تغرق العالم العربي والإسلامي في فصول مواجهات لا تختلف كثيرا عن تلك التي شهدتها تونس، ومصر فيما بعد. ويبدو أن المعطيات في الحالة الليبية لا يمكن أن توفر أجوبة نهائية حول مصير النظام هناك، ومصير زعيمه، وهل ستقضي »ثورة شباب الفيسبوك« على ثورة القذافي وتحل محلها، لكن يبدو من جهة أخرى أن الأوضاع في البحرين أخطر، فالبلد ورغم طبيعة النظام السياسي فيه، والذي لا يطرح البتة قضية »الخلود« في السلطة، إلا أنه يثير مسألة لا تقل خطورة تتعلق بالطائفية والمذهبية، فالسلطة في البلاد بيد أقلية سنية والأغلبية من السكان إنما هم شيعة، وقيام السلطة بقمع المتظاهرين بالشكل الذي رأيناه، وتدخل الجيش بسرعة، يخفي الخوف حقيقة من أن تغرق البلاد في حرب أهلية حقيقية وهو ما جعل البعض يتحدث حتى عن احتمال تدخل الجيش السعودي في الشارع البحريني لتفاد الكارثة، وللوقوف ضد أي انقلاب يكون في صالح الشيعة وفي صالح إيران، وإن كانت إيران منهمكة هي الأخرى في إخماد »ثوراتها« هي الأخرى التي يقودها التيار الإصلاحي. وتعتبر الاحتجاجات الاجتماعية في اليمن هي الأخطر حاليا، فالبلاد توجد منذ أشهر على صفيح ساخن، بفعل حركة الحوثيين الشيعية وبسبب الحراك الجنوبي، وبفعل التدهور الأمني وتصاعد وتيرة العلميات التي تنسب إلى القاعدة، كما أن البلد توجد تحت رحمة رئيس لا يختلف كثيرا عن مبارك، وقد حكم البلاد أكثر مما حكمها »فرعون مصر« المقال، وكان يطمع إلى توريث العرش لنجله، وقد استولى علي عبد الله صالح على كل مفاصل السلطة في اليمن ووضع أقاربه في المراكز الحساسة خاصة في مؤسسات الأمنية والجيش، ولم يترك مجالا لمعارضيه غير الثورة عليه، رغم أنه أعلن لما فاحت رائحة الاحتجاجات، أنه لا ينوي توريث السلطة لنجله. والواقع أن الدول المذكورة قد تدخل في نادي المرشحين لمرحلة سياسية جديدة، مرحلة تعم فيها الحريات وتنتهي معها أساليب القهر والاستبداد، لكنها قد تلج فصول قاتمة من الفتنة وقد تنتهي كدول وتقسم التجاذبات السياسية أو الإيديولوجية والطائفية أو حتى العرقية، ظهرها وتنهي وجودها. والواقع أن كل دولة من الدول ربما هي محضّرة خصيصا للتماهي مع سيناريو خاص بها يتراوح بين الفوضى والانفلات الأمني والانقسام والتشتت. الحالة الجزائرية، هذا إن افترضنا مع البعض أنها حالة، أي أن البلاد مقبلة هي الأخرى على فصول من عنف الشارع، تستمد خصوصياتها من كون الشعب الجزائري بمختلف مكوناته جرّب الفتن وعانى الأمرين جراء المأساة الدامية لا يزال يعيش بعض فصولها، ولما تتدخل بعض القوى المعروفة باستثمارها في دماء الجزائريين، سواء كانت هذه القوى جزائرية أو أجنبية تتضح خيوط المؤامرة، حتى وإن لا يزال البعض يرفض هذه الأطروحة ويصر بأن العفوية هي التي تحرك الشعوب وأن ساعة التغيير قد حانت وما على السلطة إلا أن تتفاعل معها بحكمة وتروي، وهو ما تضمنته الرسالة المطوّلة التي بعث بها الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني عبد الحميد مهري خاصة فيما يتعلق بعقد مؤتمر وطني جامع وإطلاق الحريات السياسية والإعلامية ومعالجة المعضلة الأمنية وفتح أبواب الحوار..إلخ، وبطبيعة الحال فإن حكمة مهري تهدف إلى شيء أساسي، وهو حصول تغيير سلمي سلس وبناء بعيدا عن الفوضى وعن الفتنة. بين مهري والداعين إلى خيار الشارع آلاف الأميال، فاللقاءات التي جمعت التنسيقية الوطنية من أجل الديمقراطية والتغيير كشفت عن الكثير من الخبايا لما يراد لهذا الوطن، وقد ضمت التنسيقية المذكورة تناقضات كبيرة جدا تراوحت بين جبهة الإنقاذ التي تحاول إيجاد طريقها نحو الشرعية، والأرسيدي الذي يسعى إلى استعادة عذرية فقدها في خضم مسار السياسي معقد جعله يقف حائرا بين التفاعل مع أحداث الربيع الأسود والتخلي عن حضن السلطة الدافئ. لقد راهنت التنسيقية على إخراج الجزائريين في يوم للغضب أريد له أن يكون بداية لموجة من الاحتجاجات قد تفضي إلى وضع شبيه بوضع تونس ومصر، حتى وإن كانت قيادات التنسيقية نفسها مقتنعة بأن الفرق شاسع بين وضعية الجزائر ودول أخرى عشش فيها الفساد والاستبداد، وما قالته زعيمة حزب العمال لويزة حنون عن »الثورة المضادة« وعن الفرق بين بوتفليقة ومبارك أو زين العابدين أو حتى القذافي وعلي عبد الله صالح جدير بأن يكرر ألف مرة، فحنون لم يسبقها الكثير من قيادات التنسيقية إلى المعارضة، وهي مدركة تماما لما يحاك في الخارج ضد الدول التي رفضت الانبطاح أمام الاملاءات السياسية والاقتصادية التي تصب في مصلحة ما يسميه الخطاب اليساري بالامبريالية العالمية. ولما تصرح مسؤولة الدبلوماسية الأمريكية هيلاري كلينتون بأنها على ثقة من انتصار الاحتجاجات في الجزائر، وتدعو صراحة المحتجين إلى عدم الانسياق وراء العنف، وإلى التظاهر، بعدما نصحت السلطات الأمريكية، ونفس الشيء قامت به ألمانيا وفرنسا، الجزائر بضرورة ضبط النفس والسماح بالمسيرات بالعاصمة، فإن كل الإشكالات تصبح واضحة ومفهومة وتصبح أطروحة التواطؤ الخارجي حقيقة وليست، كما يظن البعض، مجرد »هوس« يسكن السلطة والموالين لها، ولن تقنع محاولات واشنطن تكرار الخطاب المعتاد الذي يركز على أهمية الإصلاحات التي أعلنت عنها السلطات، خاصة في المجال السياسي، كرفع حالة الطوارئ أو اعتبار الجزائر حليفا استراتيجيا في مجال مكافحة الإرهاب، من حقيقة أن الجزائر توجد ضمن السيناريو الخطير الذي يجري تنفيذه في العالم العربي والإسلامي.