دخلت الإصلاحات السياسية في الجزائر مرحلة الجد، فالكشف عن مضامين عدد من النصوص القانونية التي صادق عليها مجلس الوزراء، وما رافق ذلك من نقاش وانتقادات من قبل المعارضة، يوحي بأن البلاد تتجه بخطوات ثابتة نحو مرحلة تعم فيها الديمقراطية وتشهد فيها الحريات اتساعا كبيرا، يسمح بتجنيب الجزائر المخطط الهادف إلى إلحاقها بالدول العربية الغارقة في العنف الذي اصطبح يسمى ب »الربيع العربي« خاصة في ظل تصريحات رسمية فرنسية وتلميحات أمريكية تتحدث عن مشروع »تثوير« الشارع الجزائري وإدخاله في دوامة العنف بعدما حسم الأمر تقريبا مع نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا. تتجه الجزائر بخطى ثابتة نحو معالجة الخلافات الحاصلة مع المجلس الانتقالي في ليبيا، وانسداد العلاقات بفعل التصريحات المسيئة التي بادر بها بعض أعضاء هذه الهيأة وتحاملهم المكشوف على الجزائر من خلال توجيه اتهامات جزافية لها بدعم وتسليح نظام العقيد معمر القذافي قبل سقوطه، وحتى بعد دخول المعارضة العاصمة طرابلس. لقد صرح وزير الخارجية مراد مدلسي من نيويورك قائلا بان الجزائر »تعترف بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا شرعيا لليبيين«، وتزامن ذلك مع بيان للخارجية جاء فيه أيضا بأن الجزائر تعترف بالسلطات الجديدة في ليبيا، وهي تأمل في العمل المشترك معها، بغية إرساء تعاون ثنائي مثمر بما يخدم مصالحة الشعبين الشقيقين. والملاحظ أن الموقف الجزائري جاء مباشرة بعد إعلان الاتحاد الإفريقي اعترافه بالوضع الجديد في ليبيا، والذي جاء بدوره بعد تسارع وتيرة الاعترافات في مختلف أرجاء العالم بالمجلس الوطني الانتقالي الذي شرع في تشكيل حكومة جديدة يرتقب أن ترى النور خلال الأيام المقبلة، وسط صراعات محتدمة خاصة بين فريق العلمانيين بزعامة جبريل، وبين الإسلاميين الذين يسيطر اغلب كتائبهم على الوضع على الأرض ويواصلون زحفهم على باقي المناطق التي لا تزال تحت سيطرة نظام العقيد معمر القذافي المتهاوي، والذي ينذر بالتحول إلى المقاومة بالاعتماد على ما تبقى من أنصاره بين القبائل خاصة قبيلة »القذاذفة«، و»الورفلة« التي تعد اكبر قبائل ليبيا على الإطلاق. قد لا تعني الانكسارات التي مني بها من يسمون ب »الثوار« خصوصا في جبهتي سيرت وبن وليد، على اعتبار أن الأخبار الواردة في الميدان تتحدث عن خسائر كبيرة منيت بها قوات الانتقالي بهاتين المنطقتين، على خلاف »سبها« في الجنوب التي أخضعت لسيطرة الانتقالي بسرعة البرق، بفعل القصف الذي تعرضت له من طائرات الأطلسي الذي أعلن عن تمديد مهمته في ليبيا ل 90 يوم أخرى رغم انف مجلس الأمن الدولي وعلى حساب القانون الدولي الذي غيب خلال كل مراحل الصراع في ليبيا، حتى لا نقول استعمل كغطاء لارتكاب مهزلة أخرى وجرائم جديدة دفع الشعب الليبي فاتورتها غاليا. قد يفسر الاعتراف الجزائري بالمجلس الوطني الانتقالي في ليبيا في هذا الظرف بالذات إذعان للضغوط الكبيرة التي تعرضت لها الجزائر خصوصا من فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية والتي سوف نأتي على ذكر البعض منها فيما بعد، لكن لا بد من الإشارة إلى أن إحجام الجزائر عن التسرع في الاعتراف بالمعارضة الليبية ينبع أولا من طبيعة دبلوماسيتها التي يشهد العالم أجمع بان ما يميزها هو عدم التسرع واحترام القانون الدولي وعدم التدخل في الوضع الداخلي لأي دولة، خاصة لما يتعلق الأمر بدولة شقيقة وجارة، وينبع أيضا من إدراكها العميق بخلفيات »المسرحية الليبية« والأطراف التي تقف وراءها والسيناريو الجهنمي الذي لا يستهدف ليبيا فحسب، بل يستهدف العديد من الدول العربية ومن ضمنها الجزائر. والواقع أنه لم يكن ممكن الاعتراف بالمعارضة المسلحة في ليبيا مع بداية المواجهات المسلحة لأن ذلك كان ليؤسس لتقاليد جديدة في العلاقات الدولية قائمة على حسم النزاعات الداخلية عن طريق العنف والتدخل الأجنبي. قناعة الجزائر بضرورة طي الصفحة والتوجه رفقة السلطات الجديدة في طرابلس نحو علاقات جديدة تكون في صالح البلدين والشعبين، لا يمكن أن يغطي على مسألة أخرى هامة وهي أن الجزائر خضعت لضغوط أمريكية وأخرى فرنسية بغية إرغامها على الاعتراف بالمجلس الانتقالي في ليبيا، فمن جهتها ضمنت كتابة الدولة الأمريكية في نصائحها الدورية لرعاياها في الجزائر، تعليمات من نوع خاص جدا، ففضلا عن دعوتهم لتوخي الحذر وتفادي السفر برا أو التحرك خارج المدن أو التجول في قصبة العاصمة، أضافت هذه المرة نصائح بعدم الاقتراب من أماكن التجمهر والقيام بتخزين المؤونة والأدوية تحسبا لاندلاع أحداث عنف، وتبدو الإشارة واضحة لاحتمال أن تشهد الجزائر احتجاجات عنيفة في إطار ما يسميه الغرب ب »الربيع العربي«، في حين أظهرت باريس نوايا خبيثة هدفها إدخال الجزائر في دوامة العنف، ونقلت مصادر مؤخرا عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قوله لرئيس المجلس الانتقالي في ليبيا، مصطفى عبد الجليل بأن الجزائر هي المرشحة بعد استتباب الأمر في ليبيا لدخول معترك ما يسمى ب »الثورة« تحت قبعة الغرب و للأطلسي، وكشفت تسريبات لنقاش دار خلال اجتماع للخارجية الفرنسية مع سفراء فرنسا بشمال إفريقيا انزعاج فرنسي واضح من موقف الجزائر الذي يعرقل عملية الاصطفاف الإقليمي وراء باريس، حيث وصفت الجزائر بالبلد المثير للشفقة، وأنها الخاسر الأكبر مما يحدث بالمنطقة، وأن الجزائر تعقل المصالح الفرنسية الإستراتيجية، وهذا الانزعاج كان منتظرا بالنظر إلى السياسة المنتهجة منذ أشهر بشمال إفريقيا والساحل الصحراوين فالجزائر، وعلى خلاف باقي دول شمال إفريقيا مثل تونس أو المغرب أو مصر تقف على نقيض المساعي الفرنسي لإعادة ترتيب الخارطة الجيو-سياسية بما يخدم مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية، وضمن مساعي باريس للضغط على الجزائر أو ربما للدفع بها نحو هاوية »الثورات العربية« المفبركة، عادت الدوائر الإعلامية فجأة إلى ملف رهبان دير تبحيرين، وفتحت قناة »كنال بلوس« مجددا أوراق هذه القضية لتنكشف مجددا خيوط الدور الذي لعبته مديرية الاستخبارات الفرنسية الخارجية في قضية الرهبان. هناك مسألة أخرى شغلت ولا تزال تشغل بال السلطات الجزائرية كثيران وتتعلق بالنشاط الإرهابي الذي تزايد مع اندلاع الأزمة الليبية، فالمشاركة الكبيرة للعناصر المتطرفة أو »الجهادية« في الحرب على القذافي، وإعلان تنظيم القاعدة الأم، وكذا فرعه المغاربي مساندته للمعارضة المسلحة، وتهريب كميات كبيرة من الأسلحة نحو الجزائر ومنطقة الساحل الصحراوي، فضلا عن الانعكاسات السلبية للفتنة في ليبيا على أمن واستقرار الجزائر وكامل المنطقة، كل ذلك جعل الجزائر تقف موقفا محايدا من المواجهات، وتعلن منذ البداية بأنها تساند القرار السيد للشعب الليبي، بمعنى أنها تقف إلى جانب الشعب الليبي، بعيد عن الجهات التي تدفع إلى الحرب سواء كان الناتو أو بعض الدول الخليجية التي تسير تحت إمرته. لقد نقلت وسائل الإعلام نهاية الأسبوع المنصرم عن مصادر أمنية قولها بأن قوات من الجيش الجزائري اشتبكت مع مجموعة مسلحة كانت تنتقل بواسطة سيارات الدفع الرباعي جاءت من التراب التونسي وحاولت التوغل في العمق الجزائري لارتكاب اعتداءات وصفت بالكبيرة، وبالتوازي مع ذلك قال الجيش التونسي انه قام باعتراض قافلة من السيارات ذات الدفع الرباعي ودمر عدد منها، وركزت بعض الفضائيات بشكل لافت على أن السيارات كانت آتية من الجزائر، وأحيانا قرب الحدود بين تونسوالجزائر، وهو ما يوحي بان بعض الفضائيات إنما حولت الجزائر إلى هدف لهجماتها المباشرة أو غير المباشرة. والواقع أن ما تقوم به الجزائر من جهد يندرج ضمن إطار حفظ استقرارها وأمنها واستقرار وأمن كامل المنطقة، فالتجربة التي اكتسبتها الجزائر بعد عقدين من مكافحة الإرهاب يرشحها لأن تتصدر جبهة التصدي لهذه الآفة الفتاكة، ومؤخرا فقط كشف وزير الخارجية مراد مدلسي بأن سياسة المصالحة ومحاربة التطرف سمحت باستسلام 10 آلاف إرهابي في الجزائر، هذا فيما أثار ما كان يسمى برئيس البعثة الخارجية للجبهة الإنقاذ المحلة في الخارج أنور هدام، من واشنطن جدلا محموما حول عودة الحزب المحل إلى النشاط السياسي، مع أن هدام كشف فقط عن قرب عودته إلى ارض الوطن بعدما مل من انتظار الرد على الطلب الذي تقدمه منذ سنوات للاستفادة من تدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي يقول بأنه قد دعمه، وضمن هذا الإطار أكدت أطراف مختلفة بان ملف الحزب المحل مغلق، وهو موقف عبر عنه رئيس الجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان، مصطفى فاروق قسنطيني، وعبر عنه أيضا محمد السعيد، المرشح السابق للرئاسات المحسوب على التيار الإسلامي. الجزائر تدرك جيدا طبيعة السيناريو المعد لاستهدافها، ولذلك فإن حزمة الإصلاحات التي أقرتها، تؤسس لمرحلة جديدة تتكرس فيها الممارسة الديمقراطية وتسمح باتساع رقعة الحريات، فمشاريع القوانين التي صادق عليها مجلس الوزراء تؤكد هذه الحقيقة باعتراف بعض تشكيلات المعارضة.