قبل أن يكتمل شهران على رحيل المناضل عبد الحميد مهري يغادرنا الرئيس أحمد بن بله إلى رحاب الله، وكأنه أراد أن يلتحق برفيق يشكل معه معلما من معالم جزائر الاستقلال بعد أن كان كل منهما معلما من معالم النضال من أجل استرجاع الاستقلال. عرفت أحمد بن بله في القاهرة قبل انتصاف الخمسينيات، وكانت علاقة حددتها شخصية كل منا ووضعيته، فقد كان بن بله، بالنسبة لنا كطلبة في القاهرة، رمزا للحركة الوطنية الجزائرية خلال مرحلة عرفت فيها العاصمة المصرية عددا من الصراعات القيادية، كان آخرها إنهاء مصالي الحاج لمهام الشاذلي المكي كممثل لحزب الشعب الجزائريبالقاهرة، وبالتالي ممثلا للجزائر في إطار الجامعة العربية. وكنت أنا مجرد طالب بسيط يدرس في إطار بعثة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تفضل بضمي إليها الشيخ البشير الإبراهيمي، بتوصية من صديقين لوالدي، الشيخ الهلالي عميمور، هما الشيخ الفضيل الورتلاني والشيخ إسماعيل جغري، وثالث كان ممثلا للجمعية بالقاهرة وهو الأستاذ أحمد بيوض، رحم الله الجميع. وحدثت وقائع، تناولتها أكثر من مرة ولا أجد داعيا للتوقف عندها اليوم، كان من نتائجها أن عددا هاما من أعضاء البعثة التفوا حول أحمد بن بله متناقضين مع قيادتهم، وكان من بينهم على ما أذكر الطاهر زعروري والمدني حواس وعيسى بو ضياف والمنور مروش وسعد الدين نويوات ورشيد النجار وعبد الحميد بو وذن وسعدي عثمان والهادي حمدادو وخادمكم المطيع. كنا نسكن في شقة متواضعة في المبنى رقم 1 في شارع جاد عيد بحي الدقي، في مواجهة منزل كان يسكن في أحد شققه الشهيد عبد القادر عودة، والذي حرصنا يوم إعدامه في 1954 أن يظل ابنه، واسمه نجاتي، معنا طوال اليوم خوفا من أن يدفعه الحزن إلى التهور. وبعد انطلاقة الثورة الجزائرية كنا نستقبل بن بله لنستمع منه إلى أخبارها، وكان أول ما لاحظته هدوءه وتواضعه وعدم امتعاضه من القهوة التي كنت، بصفتي أصغر المجموعة سنا، أقوم بإعدادها على عجل، وكان الرئيس ينتظر عودتي من المطبخ ليستأنف حديثه. والتحقت المجوعة الأولى من طلبتنا بالثورة في نهاية 1954 وبداية 1955، في نفس المرحلة الزمنية التي التحق بها الطالب محمد بو خروبة، هواري بو مدين فيما بعد، بينما أرسلتُ أنا إلى الإسكندرية لأواصل دراستي الطبية، لكنني لم أكن سعيدا بذلك. وحرصت أن أظل على اتصال بالرفاق في شقة الدقي، وطلبت من عبد الحميد بو وذن، شفاه الله وعافاه، أن يدبر لي لقاء مع بن بله، لأنني لم أكن على استعداد لأشاهد زملائي يلتحقون بالثورة الواحد بعد الآخر وأتابع أنا دراستي وكأن شيئا لم يكن. وتم اللقاء بالفعل في أحد المقاهي العامة التي كان بن بله يلتقي فيها بالشباب، حيث فرضت ظروف الأمن ألا يعرف مسكنه إلا عدد محدود، وكان مكان اللقاء مقهى الأمريكين في أول شارع سليمان باشا، الذي أصبح اليوم شارع طلعت حرب. كنت أحدث بن بله وأنا أرتجف، فقد كنت أرى فيه رمز الثورة العظيمة التي بدأت تهز الوطن العربي، وتهتز لها الجموع والقيادات والبلدان. وطرحت طلبي على بن بله قائلا بأنني لا أحتمل أن أظل في مقعد الدراسة ورفاقي يلتحقون بالثوار، ويبدو أن صوتي كان عاليا فقد لكزني عبد الحميد بقدمه. ونظر لي بن بله بابتسامة هادئة ونظرة حانية ثم سألني عن دراستي وقلت إنها الطب، وأحسست على الفور بأن الابتسامة اختفت والنظرة أصبحت أكثر حزما، لكن رده كان هادئا بقدر ما كان حاسما : نحن لسنا في حاجة لجنود بقدر ما نحن في حاجة لأطباء، فاستمر في دراستك. وصدمت، فقمتُ غاضبا وتركتهما متوجها نحو حي الدقي، الذي يبعد بنحو أربعة كيلومترات، ولأن اللقاء كان قرب نهاية الشهر فقد سرتُ على قدميّ، إذ لم يكن معي القرش (2 دورو تقريبا) الذي يمكنني من ركوب الحافلة. وهكذا اندفعت في شارع سليمان ثم دخلت في ميدان التحرير المشهور لألج منه إلى جسر قصر النيل، وفي منتصف الجسر تقريبا تتوقف بجانبي سيارة تاكسي كان فيها بن بلة وعبد الحميد، الذي بدا أنه هو من أثار انتباه الرئيس إلى خط سيري نحو المنزل، وركبت معهما وأنا بالغ التأثر من مفاجأة لم أكن أنتظرها، وكان حنوّ بن بله عليّ حنوّا أبويا لا يمكن أن أنساه، وقال لي يومها أن الثورة قد تطول، وستكون في حاجة لك، فلا تتعجل. ويُختطف بن بله في أول قرصنة جوية يعرفها العالم، حيث أجبرت الطائرة المغربية التي كانت تقله مع ثلاثة من قيادات الثورة على الهبوط في مطار الجزائر، ولكن مخطط فرنسا لم ينجح لأن الثورة الجزائرية سارت على مبدأ : إذا سقط منا سيدٌ قام سيدُ. وتتوالى الأحداث، وألتحق أنا في العام التالي بالثورة، وتجري السنوات لتنتزع الجزائر استقلالها بثمن هائل من التضحيات، ويفرج عن بن بله ورفاقه، ويتم التحالف الإستراتيجي بين بن بله وقائد جيش التحرير الوطني الذي أصبح وزير للدفاع ووالداً للجيش الوطني الشعبي، وهو العقيد هواري بو مدين. كنت تمكنت من استكمال دراستي الطبية في 1963 والتحقت بالجيش، وعلى وجه التحديد بسلاح البحرية، وكنت في 1964 مديرا للخدمات الطبية ومحافظا سياسيا للبحرية الوطنية، وعندها كلفت بعمل لم أكن مهيئا له، ولكننا آنذاك كنا نتمتع بحجم هائل من التلقائية وروح التطوع وقبول أي مهمة نكلف بها من قبل القيادة، علما بأن كل عمل إضافي كان تطوعيا وبدون مقابل مادي، فلم يكن بيننا آنذاك من يتوقف طويلا عند الجوانب المادية. وهكذا وجدت نفسي في يوليو 1964 عضوا في لجنة التحقيق المكلفة بملف الباخرة المصرية نجمة الإسكندرية التي فجّرت في عنابة، وكان أول الاحتمالات آنذاك، وما صرح به الرئيس بعد ذلك، أنه عمل عدائي قامت به مصالح معينة لبث الفتنة بين الجزائر والقيادة المصرية برئاسة جمال عبد الناصر. وهكذا كان علي أن أشرح ظروف الحادث للرئيس الذي انتقل إلى عنابة لزيارة موقع الانفجار، ولم أتمالك نفسي وأنا أصافحه عند وصوله إلى مدخل الميناء فقلت له : سيد احمد (هكذا) هاأنذا، كما تنبأت أنت لي، أستقبلك طبيبا في الجزائر. وأحسست يومها بأنه لم يتعرف عليّ، وأعترف أنني غضبت، فقد صور لي غروي، وأنا الطبيب الأول في البحرية، أن الرئيس يجب أن يعرفني ويتذكر علاقتنا القديمة. وتمر السنوات وتتوالى الأحداث، وأجد نفسي بعد نحو سبع سنوات مستشارا للرئيس هواري بو مدين لشؤون الإعلام، ثم احتفظ بنفس الموقع مع الرئيس رابح بيطاط خلال رئاسته المؤقتة للدولة، ثم أواصل نفس المهمة مع الرئيس الشاذلي بن جديد، ثم أتعرض للتصفية مع آخرين في منتصف الثمانينيات، ثم أستدعى لمنصب السفارة في إسلام أباد. وألتقي مع الرئيس بن بله في بداية التسعينيات، إثر انتهاء مهمتي في باكستان. وكان اللقاء في مقر إقامته بحيدرة، بحضور الأخ عبد العزيز بلخادم، الذي كان يومها من قيادات جبهة التحرير الوطني بجانب عبد الحميد مهري. وحدث أمر طريف جعلني أحس بأن الرئيس كان يعرف على وجه التحديد مساري المهني كله، فقد جلس في منتصف الصالون وكنت على يساره وبلخادم على يمينه، ولكنني في الدقائق الأولى للقاء، وحتى لا يضطر إلى الاتجاه يمينا ويسارا للحديث معنا، تركت مكاني على يساره وجلست إلى يمين بلخادم الذي فوجئ بما فعلته، لكن بن بله عاجله بالقول : فلان يعرف قضايا البرتوكول جيدا. وكان الحديث عاما ولم يتناول على الإطلاق الفترة التي عملت فيها مع الرئيس بومدين. وأحسست بأن عليّ، للأمانة التاريخية، أن أسجل موقفا أريح به ضميري، فقلت للرئيس: هناك أمر أحب أن أقوله لك وأعتقد أن له أهميته. لقد عملت مع الرئيس بو مدين نحو ثمان سنوات، وأقول لك بصدق، والرجل في رحاب الله لا يملك لي ضرا ولا نفعا، بأنني لم أسمعه يوما يسيء لك بكلمة أو بتعبير، وربما كان هناك يوما من يستفزه لذلك. وردّ الرئيس قائلا : سي بو مدين كان دائما رجلا وطنيا. وأسجل هنا أنني لم أسمع بن بله يتحدث عن بو مدين بدون أن يسبق اسمه بتعبير (سي) وسواء خلال مرحلة الرئاسة أو بعد أن حدث ما حدث في الستينيات. ويبقى أن صفحة رائعة من تاريخ الجزائر قد طويت بوفاة الرئيس أحمد بن بله، وهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الرجل الذي لم يعرف طول حياته معيشة القصور، وكان في تقشفه وزهده مثيلا لنفس الرجل الذي أنهى رئاسته للجمهورية، ولسبب بالغ البساطة، لأن على القمة مكان لكرسي واحد فقط، وهو ما كنت تناولته أكثر من مرة. ولعلي أخذتُ عليه، بدون أن أكتب ذلك، أنه، وقد ترحم على قبر مصالي الحاج، لم يفعل نفس الشيء مع بو مدين. لكن قبره سيكون اليوم إلى جانب أضرحة كثيرين كانت بينه وبينهم خصومات بل وعداوات، لكن العالية أصبحت الرمز الحقيقي للمصالحة الوطنية. وختاما، لن أعتذر عما قد يراه البعض نوعا من الذاتية في حديثي، فقد تصرفت كشاهد على الأحداث وجوده في الرواية جزء من مصداقية التناول، وأعرف أن كثيرين لا يروقهم هذا، أو يجدونه فرصة للوم والعتاب. ولهم أقول، هذا قصارى جهدي ومنتهى اجتهادي، وفي انتظار أن أقرأ لكم ما يمكن أن يبتعد بكم عن الذاتية التي ترفضون، إن كنتم تستطيعون.