تابعت برنامجا دينيا في الفضائية المصرية، وكان الشيخ عاشور من علماء الأزهر يجيب على أسئلة الناس. وما لفت انتباهي في إجاباته المختلفة هو قضية "الاقتراض البنكي" الذي أثرته في مقال سابق بعنوان " فتاوى السوء "، حيث لخص الإجابة بشكل بسيط "من اضطر للاقتراض فليفعل" مشيرا إلى أن "البنوك لم تكن موجودة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك تتطلب اجتهادا خاصا، تبعا لتغير الظروف والمجتمعات"، وقال أن الشافعي كانت له عدة فتاوى في العراق لكنه عدلها لما حل بمصر لتغير الظروف. وقد سأل منشط البرنامج سؤالا بالغ الأهمية والدلالة قائلا له فيما معناه: "هل يجب أن تعطي مؤسسات دينية مشهود لها شهادة "داعية " حتى تمكنه من الظهور في صورة مفتى أو داعية إلى الله في الفضائيات العربية الكثيرة؟". تذكرت هذا البرنامج، وهذا السؤال على وجه التحديد عندما قرأت خبرا نشرته الصحافة الجزائرية خلال هذا الأسبوع، مفاده أن أحد الدعاة الجزائريين وصف يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ب "اليوم المشؤوم" ! وبالفعل إن السؤال المطروح اليوم هل يحق لأي كان أن يقول أنه "داعية إلى الله" ويظهر في الفضائيات والمساجد ويفتي بعلم أو بدون علم، ويطلق الأوصاف والأحكام، ويرشد الناس إلى انتهاج سبيل دون آخر؟ فالعالم العربي يحصي اليوم أزيد من 250 فضائية، وتكلفة إطلاق فضائية تقلص بفعل التكنولوجيا إلى أدنى مستوى له، بما يمكن أي رجل أعمال متواضع من إطلاق فضائية، وتمكين أي كان من الإفتاء بحسن نية أو بسوئها بعلم أو بدون علم. وإذا كان المجتمع البشري المعاصر يحتاج العلاج عند طبيب يحمل شهادة في الطب، ويحتاج إلى صحفي متكون ويحمل شهادة في الصحافة ليتمكن من نقل المعلومات ونشرها بين الناس، ويحتاج إلى خباز ماهر متكون ليشتري الخبز، ويحتاج إلى مدرب كفء له شهادة في التدريب لتوكل له مهمة تدريب فريق في "لعبة" كرة القدم، وغيرها من الأمثلة، أليس من الأحسن أيضا أن تحتاج "الدعوة " إلى شهادة لتمكن حاملها من الدعوة إلى الله؟ إن هذا الكلام ليس دعوة لاحتكار العمل الديني عند المؤسسات الحكومية، لأن الفتوى أحيانا تحتاج إلى استقلالية الداعي عن السلطة التنفيذية لتكون "ذات فائدة"، ومن أجل ذلك حرص أئمة الإسلام وشيوخه المشهورين في مختلف المذاهب على استقلاليتهم، ورفضوا حتى الوظيفة من أجل هذه الاستقلالية. ولكن ليس معقولا أن تبقى "الفوضى الخلاقة" متحكمة في هذا المجال الحساس، ليقوم بها كل من هب ودب، وتنتج فتاوى متضاربة ومتناقضة، وتنتج "دعاة فضائيين" يتحاملون على العلماء، وتنتج من يسقط فتاوى القرن الأول الهجري على القرن ال 15.. وتنتج من يقول أن يوم مولد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم يوما مشؤوما! [email protected]