في الوقت الذي اعترف فيه وزير الشؤون الدينية، بوعلام الله غلام الله، أن مشروع مفتي الجمهورية ما زال حبيس الأمانة العامة للحكومة، وقد يبقى، أطلّ علينا مفتي الديار المصرية الدكتور علي جمعة محمد، وفي رصيد مؤسسته قرن وعشر سنوات من العطاء الإفتائي من عهد الشيخ حسونة النواوي مرورا بمحمد عبده ووصولا إلى الرقم الثامن عشر مع الدكتور علي جمعة الذي زار قسنطينة لأول مرة واستقبل "الشروق اليومي" في مكان إقامته بفندق سيرتا، وأجاب بكثير من الدقة على أسئلتنا، وهو يصر على الابتعاد عن المونشيتات المثيرة التي تقول ما لم يقله.. سألناه فأجاب.. إستفسرناه فأفتى. حوار: عبد الناصر ❊ الشروق اليومي: أشرفتم على مناقشة دكتوراه دولة من تقديم طالبة جزائرية رفقة أساتذة جزائريين، كيف وجدتم مستوى التعليم في كليات الشريعة؟ - د. علي جمعة: صراحة.. الرسالة كانت متميزة في موضوعها الذي تناول التجديد في أصول الفقه، وهو موضوع جديد وعميق وصعب للغاية ويخدم الواقع المعيش، والجامعة بهذا تكون قد خدمت الأمة والناس ما دامت تهتم بمشكلاتهم المعاصرة. ومثل هذه الرسائل هي دعوة ظلت تتكرر منذ أربعين سنة، وجذورها أعمق، وتحتاج إلى دراسة ونقد وتصنيف وتجريد لبلوغ أسس الدعوة، وللجامعة أيضا السبق على المستوى العالمي بهذه الرسالة، لأنها أول دراسة أكاديمية موسعة في هذا الموضوع، لأنه في الوقت الحالي لا وجود لدراسات سابقة ما عدا كتب ومنشورات، بينما عكفت الطالبة الجزائرية على البحث التأسيسي منذ ثماني سنوات. ومن حق الجامعة أن تفتخر بهذه الرسالة، ومن حق قسنطينة أن تفتخر بجامعة الأمير عبد القادر، ليواصل موطن شيخ الإسلام ابن باديس رحلة التعليم والتربية وإنشاء الأجيال وبناء الإنسان. ❊ تشغلون منصب مفتي الديار المصرية، هل هو منصب ديني أم اجتماعي أم سياسي.. أم خليط من هاته المجالات؟ - مفتي الديار هو منصب علمي يقوم بدور البيان، ويجب أن يتصدر عملية الإفتاء عالم. وبتعريف بسيط يمكن القول إن الفتوى علم وفن في فهم وتحليل سؤال المستفتي ومآلات الإجابة، ويشترط في المفتي الخبرة والخلق والرحمة والتسامح والصبر، فهو منصب علمي بالأساس وله مجالات أخرى في السياسة والمجتمع والاقتصاد والقضاء. ❊ تجد الجزائر صعوبة في تعيين مفتي الديار، فهل طلبت منكم المساعدة أو من مؤسستكم؟ - هناك تجارب ناجحة وكثيرة في دول أصبح فيها دور المفتي حساسا وهاما، مثل مصر والأردن والمملكة السعودية وسوريا، وهناك دول أخرى تفكر جديا في بعث مفتي الديار، ومنها الإمارات العربية والكويت والجزائر وتونس، ونحن نتعاون ونتشاور ونتبادل الخبرات منذ سنوات عديدة ضمن إطار الشريعة الإسلامية، وهناك دول مثل ليبيا كان فيها مفتي. ❊ غياب مفتي الديار في الجزائر أشعل الخلاف في عدد من المسائل مثل اليانصيب أو (الطومبولا)، وتعاطي اللحوم المجمدة المستوردة من أوروبا وخاصة قضية فوائد البنوك؟ - الخلاف الفقهي هو في حد ذاته ثراء في الفقه الإسلامي، لكن البعض يحاول أن يجعل من هذا الاختلاف تناقضا وتضاربا، بالنسبة للبنك فله فوائد اقتصادية وعالمية من استثمار وإخراج المدخرات من البيوت حتى تتداول في السوق بين أيدي أصحابها. والقضية هي تحديد الفائدة من عدمها، وهو محل الخلاف بين العلماء، إن كان هذا جائزا أو ممنوعا، وقبل إبداء الفتوى في هذه القضية وجب دراسة وضع البلد والكيفية والحكم القاطع من دون التبيان هو خطأ في حد ذاته. أما عن اليناصيب فهو نوع من القمار الذي يعتمد على الحظ؛ لأنه من المسائل الوهمية، والأصل فيه أنه حرام، ولا أظن أن فيه خلافا، عكس البنوك التي هي عمل واستثمار وتشغيل للأموال في الأسواق. ❊ كثر الحديث في الجزائر أيضا عن الرقية في غياب فتوى قوية؟ - الرقية هي دعاء.. مثل أن ندعو لله "يا رب اشفني". وهي ليست فنا من فنون العلاج، نقوم بها أحيانا على أساس دعاء الله، والله يستجيب أو لا يستجيب. أما أن نمتهنها فكلنا نعلم أنه لا يوجد دعاء كمهنة، وهي محل نظر وتتطلب البحث، كيف تم تحويل الدعاء إلى مهنة؟ فعندما قام أحد الصحابة بالرقية وأخذ شاة عليها كانت له ظروف أخرى من امتناعه عن ضيافتهم، أما أن نحوّل الرقية إلى مهنة كأن نفتح عيادة بعنوان عيادة الدعاء فذاك ما لم يعرفه الفقه الإسلامي إطلاقا. ❊ هناك من يقول إن منصب المفتي في حد ذاته بدعة؟ - الفتوى كانت من وظائف الرسول (صلى الله عليه وسلم)، كما قال الإمام القراشي حيث كان الرسول الكريم قاضيا ومجاهدا ومعلما ومفتيا، فالفتوى قضية مهمة، وهي بيان الحكم الشرعي، ويحتاج المفتي إلى علم وتدريب وتربية أخلاقية، وتتطلب توفر ثلاثة شروط هي إدراك النص الشرعي، أي العلم والواقع المعيشي، أي التدريب وكيف نوقع هذا الحكم على الواقع المعيش في إطار من الرحمة والصبر وسعة الصدر والتسامح. ❊ المفتي في حاجة إلى غيره؟ - نعم.. وعليه الاستماع إلى الخبراء في علوم الفلك والاقتصاد والسياسة والطب والفن. المفتي ليس طبيبا ولا سياسيا، وعليه أن يستوعب نتاج ما يراه السياسي المحنك ثم يلقي الحكم عليه، ويفعل ذات الشيء مع الطبيب والاقتصادي وحتى الأطباء وممتهني مختلف العلوم في حاجة إلى المفتي. ففي قضية نقل الأعضاء أو الاستنتاخ لا تبقى القضية طبية فقط، حيث نسأل الطبيب إن كان قادرا أو غير قادر، وإن كان عمله نافعا أو غير نافع، فمثل هذه القضية لها جوانب قانونية واجتماعية وإنسانية (حقوق الإنسان). رجل الدين أو المفتي هنا عليه التدخل كرجل يرفض تسلط الأقوياء وتحول جسد الإنسان إلى قطع غيار قابلة للبيع والشراء. ❊ المطلوب إذن هو إدخال الفتوى في المعاصرة؟ - لا تناقض في الإسلام ما بين الفتوى والمعاصرة، هذا ما يميز الإسلام عن بقية الأديان، حيث يلتحم المستور مع المنظور، فكلاهما من الله، فمثلا في قوله تعالى (إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم). هنا يمكن ملاحظة قراءتين كتاب الله المنظور "الأكوان" وكتاب الله المستور "القرآن". في الإسلام لا فرق عندنا ما بين الآخرة والدنيا، ما بين القرآن والأكوان، اللهم إلا إذا دخل الجهل في الفتوى. وهنا يحدث الإشكال. ❊ الجزائريون في غياب مفتي الديار أصبحوا يستوردون الفتاوي. ومنها الغريبة جدا؟ - يجب أن نسمي الأشياء بأسمائها، ونحدث إجماعا على رأي واحد، وهو أن لا نسمع الفتوى إلا من المتخصص، فالفتوى يجب أن لا تصدر إلا عن عالم، وإذا سمعنا فتوى نسأل عن صاحبها.. ثم لماذا نسميها فتاوى بالرغم من شذوذها وغرابتها. لا يمكن أن نقول هذا طبيب زنديق يجب أن نسميه طبيبا (مختصا) أو مشعوذا زنديقا، ويمنع الجمع بينهما. الفتاوى الغريبة موجودة منذ فجر الإسلام، وهؤلاء هم عادة أهل الأهواء والبدع، وهنا يجب التركيز على خطورة دور الإعلام، فعليه عدم إذاعة مثل هذه الفتاوى، لأنها مفسدة، ونحن لحسن الحظ نقاوم بقوة. ❊ لكن بعض المفتين هم من الدعاة المشهورين الشباب؟ - الشهرة لا تعني العمل، والذين يقولون إن بعض الدعاة أحرقوا المفتين على أساس أنهم (خواص) ونحن تابعون للحكومات هم في الحقيقة يقولون كلاما باطلا ومضحكا يهمس به الدعاة أنفسهم. أقول إنني رقم 18 في دار الإفتاء وكلنا من أبناء جامع الأزهر، وخمسة من هذا الكم أصبحوا شيوخا للأزهر، وآخرهم الشيخ الطنطاوي. الأزهر يمنح العالم سنويا ما لا يقل عن ألفي شخص يحفظ القرآن الكريم، وهو موجود منذ ألف سنة، وخرّج حوالى مليوني متخصص في علوم الشريعة وله منهج.. أسألكم بعد هذا السرد الموجز، كيف نستمع لفتوى داعية لا خبرة له في الحياة ومحدود العلم ونتجاهل فتوى رجل أزهري معجون في هذا التاريخ؟! الحكاية أشبه بمن (يخبط) رأسه في الهرم!. ❊ تتدخل السياسة أحيانا في أحكام المفتي؟ - أبدا.. نحن نقدم النصيحة من دون إجبار المستمع على الإلتزام. نقدم المشورة، يجب أن يبقى المفتي مستقلا من دون تدخل أحد. وفي مصر على مدار قرن وعشر سنوات تدخلت الحكومة ثلاث مرات بحثا عن تغيير فتوى حسب الأهواء وفشلت المحاولات الثلاث. ففي زمن الخديوي عباس طلب من محمد عبده أن يسمح له بأن يستولي على بعض (الأوقاف) مقابل 20 ألف دينار من الذهب فرفض محمد عبده. كما أن الملك فاروق عندما طلق زوجته فريدة طلب من المفتي إصدار فتوى تحرم زواجها من رجل آخر على وزن زوجات النبي (صلى الله عليه وسلم) أي أنه وضع طليقته في رتبة أمهات المؤمنين ووضع نفسه في مرتبة النبي، رفض المفتي، وفي زمن جمال عبد الناصر ذهب ضابط من الحكم الناصري وطلب من الشيخ المفتي حسن مأمون لأجل إصدار فتوى تؤيد المذهب الاشتراكي فقام حسن مأمون بطرد الضابط من مكتبه. ❊ يعاب عليكم كثرة الفتاوى؟ - هذا الانتقاد يحتاج فعلا إلى دراسة، فعلى مدار 110 سنة من تاريخ دار الفتوى أصدرنا 120 ألف فتوى، وإذا عدنا إلى شيخنا الفاضل محمد عبده رحمه الله نرى أنه أصدر 944 فتوى خلال ست سنوات قضاها على رأس دار الفتوى وكان سكان مصر 14 مليون نسمية، ونحن الآن نصدر 8000 فتوى في الشهر الواحد، مع العلم أن 64 يهوديا متواجدين في مصر ومئات الآلاف من المسيحيين يطلبون منا الفتوى. وقمنا مؤخرا بغربلة 120 ألف فتوى وأصدرنا 23 مجلدا فيها 4000 فتوى، وهي موجودة حاليا في السوق ضمن قرص مضغوط في انتظار إصدار ثلاث مجلدات جديدة هي حاليا في طريقها إلى الطبع. المهم ليس في الكم وإنما في الدقة والإخلاص. ❊ كيف وجدت الجزائر؟ - عندما بلغتني دعوة جامعة الأمير عبد القادر، ودعوة عميد كلية أصول الدين والشريعة والحضارة الإسلامية، وعدتهم بأن أجعل أول أسبوع من شهر جوان جزائريا، وكنت عند وعدي. وكانت الجزائر عند وعدها في ذاكرتي، وجدت وطنا وشعبا متصالحا مع الذات ومع العلم ومع الدين.. والحمد لله.