الفتوى اليوم أصبحت في كل مكان.. وكل ملتح بإمكانه أن يفتي.. وكل أمام الصلوات الخمس لا يتأخر عن الإفتاء في أي موضوع يعرض عليه.. رغم أن للفتوى شروط محكمة أهمها "العلم". والعلم اليوم يتوسع من دائرة العلم بالدين إلى دائرة العلم بالحياة العصرية المعقدة التي دخلت عليها التكنولوجيا وتحكمت فيها الإيديولوجيا، ومن لم يجمع بينهما لا نضمن أن لا يقع في الخطأ.. كنت جالسا في الأزهر.. أستمع لامرأة على مقربة مني تستفتي أحدهم لست متأكدا هل هو من شيوخ الأزهر أم فقط من المصلين الملتحين.. تسأل المرأة هل يجوز لها أن تقترض من البنك لتجهيز ابنتها للزواج.. فكان الرد بالتحريم القطعي.. وقد سأل رجل أردني كان يجلس أمامنا مع عائلته عن سبب الاقتراض بعد أن انصرف "المفتي" فأوضحت أن في مصر يجب على المرأة أن تؤثث البيت بينما تقع على عاتق الرجل مهمة توفير بيت للزواج. وسوف يتعطل الزواج بدون ذلك. فهل يجب على الشابة أن تصبح عانسا بدل الاقتراض ثم تسديد القرض بفوائده المعروفة ؟ ما رأي الدين فعلا في هذا الموضوع رغم أن العلماء وضعوا قاعدة فقهية تقول أن "الضرورة تبيح المحظورة"، ونقرأ في القرآن الكريم "فمن اضطر منكم غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه".. قضية الاقتراض من البنوك بفوائد للضرورة يجب أن بفصل فيها العالمون بالدين والحياة العصرية تفصيلا.. درء للشبهات وحفاظا على المصالح المرسلة. تصوروا أنني تابعت فتوى أخرى على قناة تلفزيونية عربية، يظهر فيها المفتى المكرفت البادية عليه علامات "اليسرة"، تسأله المرأة عبر الهاتف "هل يجوز لها أن تقترض من البنك لشراء بيت لأن المبلغ الذي تملكه غير كاف لذلك"، فجاء الرد بالتحريم القطعي ونصحها بأن تلجأ إلى الإيجار.. هكذا بدل أن تتمكن هذه السيدة من امتلاك بيت بعد اقتراض ما ينقصها.. نصحها المفتى باستهلاك ما ادخرت خلال السنين في الإيجار.. وبعده تذهب إلى العراء.. وينسب ذلك إلى الدين.. تفطن منشط البرنامج وسأله: "حاليا هناك بنوك إسلامية تقوم على المشاركة والمرابحة فهل يجوز لها أن تلجأ إليها؟". وكأن المفتى تلقى صفعة على خده.. فرد قائلا بالجواز.. والحقيقة أن المشاركة والمرابحة لا تختلف في هذه الحال عن "القرض بفوائد".. وهكذا تصبح كثير من الفتاوى "تهديدا للأمن العام".. فهي لا تميز بين المحظور قطعا بنص صريح ، وبين الاجتهادات المحكومة بالزمان والمكان وبالحالات التي تخضع للقياس. كثير من رجال الدين يحفظون عن ظهر قلب القواعد الفقهية ولا يعرفون تطبيقها في الحياة. يحفظون عن ظهر قلب فقه الأولويات وفقه الموازنات ولا يعرفون تحديدها ولا الموازنة بين الأشياء..