للحديث مع الإعلامي الروائي المتميز حميد قرين نكهة خاصة فهو يجمع العمل الصحفي وتقنياته مع الإبداع في أرقى صوره التقيناه مؤخرا بمكتبة العالم الثالث على هامش توقيع روايته الجديدة "مقهى جيد"، فجاءت الأسئلة سيلا حملنا إلى نتؤات ومفاصل سؤال الإبداع والتجربة الإنسانية ويكتشف القارئ من خلال هذا الحوار جوانب متعددة لتجربة إعلامية وإبداعية تحفر مكانتها بقوة وعمق في المشهد الثقافي الجزائري• ***ماذا عن عوالم وأجواء رواية "مقهى جيد"؟ **رواية "مقهى جيد" تستمد وقائعها من الواقع وليس من الخيال فهو مقهى كان يعرف قديما ب "مقهى سكساف" عند البسكريين وبما أن الكاتب الفرنسي الكبير أندري جيد كان يتردد على المقهى بعد زيارته المتكررة لمدينة بسكرة ل 6 مرات متتالية حيث كان يتعافى من مرض السل أطلق عليه مقهى جيد تكريما لهذه الشخصية الأدبية، ويذكر أن آخر زيارة قام بها الكاتب أندري جيد لبسكرة كانت في حدود سنة 1903 وأوضح أنني أستخدم محطة حضور "أندري جيد" كذريعة ومدخل لا غير للغوص في الكثير من الذكريات والبحث عن الزمن الماضي رغم أن النص محمل بهموم التراث وأسئلة الراهن الإنساني برمته وما تشهده العلاقات الإنسانية كما أثير من خلال روايته "مقهى جيد" وهو لا يدرج ضمن خانة "البيوغرافيا" وأغري أسئلة التراث، أسئلة الصداقة وقد تحركت في فضاء حقيقي هو أماكن موجودة في بسكرة واندثر بعضها بسبب الإهمال حيث تقفيت خطى "أندري جيد" لكن مقابل ذلك وللضرورة الإبداعية فإن الشخوص التي تشكل جسد الرواية والحوارات هي من وحي الخيال نسجتها ما عدا شخصيتي "أندري جيد" وزوجته "مادلين" فهي حقيقية• *** لكن محور الرواية يجمع "أندري جيد" ب "عزوز" ثم عزوز ما هو سر هذه العلاقة؟ **تروي "مقهى جيد" يوميات الشاب "عزوز" ذو 15 عاما والذي يعيش ببسكرة في عام 1966 وهي المدينة التي لا يوجد فيها وسائل للترفيه غير الإذاعة وبقناة واحدة وحتى الصحف لا تصل إلا بعد مرور أيام، فتضيق به المدينة ويحلم بالرحيل إلى العاصمة وليس الحرقة إلى الخارج بسبب توفر الفيزا حينها، ويكتشف عبر معلمته الفرنسية أن الكاتب الشهير "أندري جيد" صاحب جائزة نوبل والذي يحمل المقهى اسمه قد عاش ببسكرة ل 6 فترات وهو ما أعاد له الأمل وربطه مجددا بمدينته فرحل يبحث عن آثاره والأماكن التي جلس فيها، بعد أن انتقل عزوز إلى العاصمة ومرور 40 سنة على ذلك يهتف له صديقه "عمر" الذي كان والده "عيسى" صديقا وهو طفل ل "أندري جيد" معلنا أن والده ترك مخطوطا - يوميات - يتحدث فيها عن "جيد" وبعودته إلى بسكرة يسترجع ذاكرته وأضيف أن روايتي يغلفها سؤال جوهري هو لماذا لم يتحدث الكاتب "أندري جيد" عن شذوذه ببسكرة لأن "أندري جيد" اعترف في كتابه بشذوذه وهو ما أثار فضيحة حين صدوره ولم يخف ممارسته غير الطبيعية، وإن تزوج شكليا مع قريبته "مادلين" لأنه كان بروتستانتي فقد اعترف "جيد" بأول تجربة شذوذ مارسها بسوسة (تونس) ثم لاحقا خلال إقامته بالبليدة وما أثارني هو اللغز المتمثل لماذا يتحدث في مذكراته عن ممارسة هذه الأفعال الشاذة في بسكرة وتساءلت هل كان "عيسى" ذو ال 13 عاما خلال لقائه مع "جيد" 1903 ضحية لممارساته الشاذة *** هل يمكن اعتبار روايتك "مقهى جيد" حنين إلى الماضي؟ أم عمل على الذاكرة بأسلوب واقعي؟ ** ليس الحنين بل عمل ذاكرة لأن أهم فترة في حياة الإنسان هي الطفولة أين تتشكل شخصيته وخياله• أعرف جيدا بسكرة ورغم أنني ولدت بالعلمة فإنني عشت فيها طفولتي الأولى حوالي 5 أو 6 سنوات لأنتقل فيما بعد بين مدن قسنطينة والعاصمة وفرنسا بحكم مهنة الوالد،وتؤطر الرواية بسكرة منتصف ال 60، ولأنني أجهل ما قبلها وما بعد هذه المرحلة فقد كانت بسكرة خلال فترة 1966 معروفة بطرازها المعماري الأصيل أو هواءها الصافي معالمها التاريخية والأثرية وبهندستها وواحاتها الغناء لكن بعد أن وعدت ولمرات متعددة إليها اكتشفت تراكم التسيب الذي طالها وتراكم الخراب، فثمة تحطيم مريع للتراث ومعالم المدينة التي اشتهرت بها رغم أنني لم أصدر عبر••••• الروائي حكما أخلاقيا وأشير أن ما تشهده بسكرة من فقدان للهوية المعمارية وفوضى البنايات الاسمنتية، تشهده معظم المدن الجزائرية العريضة باستثناء مدينة سطيف التي أصبحت نموذجا مميزا، حيث تعرضت المدن الجزائرية للتشويه وطمس المعالم والخصوصيات العمرانية المحلية وذلك بسبب غياب مخطط للتهيئة العمرانية وللأسف ما تعرضت له بسكرة وغيرها من المدن يحزنني، خاصة بعد أن وقفت عند تجارب بالعديد من الدول التي تمتلك رؤية للحفاظ على المدن العتيقة وفق مخطط عمراني صارم يستجيب لمعايير جمالية وفنية وغير فوضوية بنمط معين ونموذج موحد، وبالتالي روايتي صرخة يائسة ونداء لحماية مرحلة الاستعمار ••••••••••••• لبسكرة سنوات ال 70 *** لماذا اختيارك للكاتب الفرنسي "أندري جيد" وليس للمفكر الاقتصادي "كارل ماركس"؟ ** لم يتحدث كارل ماركس عن بسكرة على عكس "أندري جيد" الذي عاش فترة معينة ببسكرة واشترى قطعة أرض ومسكن وقال عنها في مذكراته وباقي مؤلفاته إنها المدينة الوحيدة في العالم التي يريد العيش فيها، كما أنه أحب البسكريين وأحبوه حيث كتب عن المدينة في مؤلفه الشهير:" l'imoraliste• وتحصل "جيد" عام 1947 على جائزة نوبل للآداب على عكس ذلك فإن كارل ماركس أب الاشتراكية مفكر اقتصادي• *** روايتك الجديدة هل يمكن اعتبارها عودة عن غير وعي إلى الجذور والينابيع؟ ** بل هي عودة واعية، فقد حملت الرواية بداخلي أكثر من 30 سنة، وقد انطلقت منذ سن 16 سنة في البحث على كل ما كتب وصدر للكاتب "أندري جيد" واقتنيت كل ماكتب عنه حيث أصبحت متخصصا في "أندري جيد" وبإمكاني كتابة بيوغرافيا مفصلة ودقيقة عنه لكن أكثر ما يهمني هو وجود أندري جيد داخل بسكرة وحضوره فيها وليس خارجها•• نعم هو عودة إلى الينبوع حيث مشيت على خطى طفولتي وشبابي وكما يقال فإن الأصدقاء الحقيقيين يكتسبهم الإنسان خلال فترة الطفولة والشباب ونحن لا نتجاوز ال 16 عاما بحكم البراءة أما في سن 25 عاما فإن الصداقة تحتكم إلى المصالح وهو ما أبرزته في روايتي "إقطف في الليل قبل النهار" فحينما كنت في سن ال 15 أو 16 عشر كان لدي أصدقاء حقيقيين وكانت الأشياء التي تحيط بنا كلها جميلة والأفق كان مشعا بالفرح•• وبسكرة كانت حينها جنة الجنوب وعروس الزيبان لكن إذا زرت بسكرة حاليا فتجدها باهتة فقدت معمارها وجمالها وواحاتها• ***هل ساعدتك الممارسة الصحفية الانتقال إلى عالم الرواية؟ ** الممارسة الإعلامية سمحت لي بتبسيط الأسلوب وسهولة الحكي، لأنك تدرك أنك تكتب لغيرك وليس لنفسك وأكتب وأنا أفكر أنه عليك جذب انتباه القارىء حتى لا يمل بعد قراءته لسطرين أو 5 أسطر بل تجذبه بأسلوبك البسيط الغير معقد• *** نلاحظ من خلال قراءة أولية لروايتك أنك لم تنفصل عن عملك الصحفي؟ ** بكل تواضع اقتحمت عالم الصحافة وأثبتت وجودي داخل الجزائر وخارجها وأشير إلى تجربتي في المغرب حيث بدأت كصحفي بسيط في إحدى أكبر الصحف المغربية وبعد أن رفضت نشر 6 مقالات لي ومع مرور 6 أشهر أصبحت رئيس تحرير هذه الجريدة وهي تجربة ونجاح أحرزته بإصراري وقدراتي•• العمل الصحفي يستدعي المثابرة والإصرار والتحدي•• وشكل الإعلام خلال جيلي (ال 80) تجربة ثرية قوية، وقد عملت مع المرحوم بشير رزوق لمدة 4 سنوات وكان مدرسة للاحتراف الصحفي كما أطرنا نخبة من أكبر الصحفيين المحترفين الجزائريين، وحين ذهبت إلى المغرب كانت مكانة وسمعة كبيرة يحظى بها الصحفيين الجزائريين باعتبارهم أفضل الأقلام الإفريقية وأثبت ذلك ميدانيا، والعمل الصحفي عمل نبيل لا يقبل المحاباة وهو أجمل مهنة في العالم والمهنة الوحيدة في العالم الذي تكون فيها دوما في موقع قوة ويسمح لك بطرح الأسئلة• *** إلى أي جيل أدبي ينتمي "حميد قرين" ؟ ولماذا لم تبرز في الأوساط الأدبية إلا مؤخرا؟ ** على عكس لقد برزت في 1986 من خلال مؤلف حول اللاعب الشهير " لخضر بلومي" الذي بيع منه 20.000 نسخة وكان ظاهرة حينها وقد اهتممت بالرياضة في الماضي كمتنفس لأنه لم يكن لدينا هامش للحديث عن القضايا السياسية، وكانت المحسوبية والمحاباة في ال 80 شرطا حتى تنشر أعمالك الإبداعية، ورغم امتلاكي الموهبة واستعدادات الكتابة الروائية مبكرا لكن لم أتحصل على فرصة النشر حينها، كما أنني توقفت عن الكتابة خلال المرحلة الدموية التي عاشتها الجزائر وأوضح أن الأعمال الروائية التي صدرت لي في السنوات الماضية هي ثمرة تراكم ما اختزنته في الماضي بداخلي منذ ال 80• ***من خلال أعمالك ثمة حفر في "الطابوهات"؟ **الكتابة لدي متعة كبيرة ومسكن وأرى أن الجزائريين يجدون أنفسهم وذواتهم من خلال الشخوص التي أكتبها فالتجارب الإنسانية مادة دسمة للكتابة الروائية وأنتمي إلى الكتاب الذي يستمتعون بفعل الكتابة• في حين أن الكثير من الكتاب عندنا وليس جميعهم لما يكتبوا ولهم عقود يفكروا في فرنسا أو غيرها فثمة إعتبارات غير إبداعية يرتكزون عليها وهمهم هو إرضاء واستعطاف ناشريهم وقراءهم في الجانب الآخر ومباركة الناشرين *** ماذا عن تحويل روايتك "الصلاة الأخيرة" و"ليلة الحنة" سينمائيا؟ ** يبقى ذلك مجرد مشروع قد يتحقق أولا بسبب ارتفاع ميزانية إنجاز فيلم سينمائي وقد أبدى المخرج بشير درايس والمنتج رشيد قاسمي رغبتهما في تجسيد "ليلة الحنة" وإذا ما توفرت الظروف الملائمة والتمويل سينطلق التصوير خلال أفريل أو ماي 2009، كما أنه ثمة إتصالات مع مخرج بلجيكي لتحويل رواية "الصلاة الأخيرة" ولكن يبقى مجرد مشروع حيث يستدعي تحقيقه حوالي 1 مليون يورو• *** ماهي نوع الموسيقى الذي تنصت إليها؟ ** أنجذب كثيرا للموسيقى الصوفية والروحية وخاصة الموسيقى التركية والباكستانية لكن رغم ذلك أستمتع بكل الطبوع الموسيقية العالمية دون إقصاء - علاقتك بالتصوف؟ ** أنا قارئ نهم لكتب التصوف - حيث قرأت جلال الدين الرومي، ابن عربي، الشيخ بن تونس، الشيخ العلوي، عبد القادر الجيلاني وكبار المتصوفة كما أواكب قراءة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما يتعلق به - لأن الإسلام دين إجتماعي وهنا تكمن قوته، وأشير أنني زرت مؤخرا تركيا وزرت مقامات المتصوفة هناك كما أنني بكيت طويلا أمام الجامع الأزرق الذي يعتبر جوهرة للفن الإسلامي والهندسة المعمارية *** متى تأتي لحظة الكتابة لديك؟ ** أكتب ليلا، ابتداء من الساعة العاشرة، بعد التفرغ من مهامي وارتباطاتي في العمل وبالتالي أكتب حينما يسمح لي الوقت بذلك وليس حينما أريد لأن الكتابة تستدعي التركيز والرغبة• *** خصصت الدورة ال 13 للصالون الدولي للكتاب 7 جوائز هل ستشارك بروايتك الجديدة؟ ** اقترح ناشري الشاعر لزهاري لبتر - منشورات ألفا - على اللجنة روايتي الجديدة "مقهى جيد" والمنافسة على جائزة الرواية الفرنسية• *** ما تعليقك على فوز الكاتب الفرنسي لوكليزيو بجائزة نوبل للآداب 2008؟ ** يستحق هذا التتويج، لأنه كاتب متواضع ومثابر تحصل على جائزة الغونكور وهو لم يتجاوز سن ال 26 عاما كما أنه معروف بحبه للعرب وزوجته من أصول مغربية ،يكتب جيدا وسعيد بذلك رغم أنني كنت أتمنى أن تفوز بها الأديبة آسيا جبار• *** لكن ما رأيك في جائزة نوبل بصفة عامة؟ ** جائزة نوبل طبخة أدبية تتداخل فيها العديد من الاعتبارات وهي لا تمنح وفق مقاييس ومعايير أدبية بحتة بل وفق علاقات القوة وعمل جماعات الضغط (اللوبيات الأدبية) وممكن أن يكون مبدع جزائري كبير تتوفر فيه مقاييس حصوله عليها لكن إذا لم ينتقد هذا الأديب بشراسة الأوضاع في الجزائر ويقول أن نظامنا سيء والجزائر سيئة قذرة ويشتم الوطن لن يتحصل أبدا على جائزة نوبل إذا قال أن الجزائر تمتلك أشياء إيجابية وبالتالي عليه أن يكون سلبيا ليحوزها• ***لماذا غياب الإجماع داخل الطبقة الثقافية في الجزائر؟ ** لا يوجد إجماع بين المثقفين الجزائريين رغم أن الأدباء الجزائريين لهم حضورهم على المستوى الدولي بفضل إنتاجهم كما أنه حينما يأتي يوم تطلق فيه أسماء مبدعينا الكبار مثل محمد ديب، كاتب ياسين، مولود فرعون•••• وغيرهم على الأحياء سنقول حينها أن الجزائر بخير على المستوى الثقافي•