الجامعة الجزائرية ليست بخير، وهذا حكم قيمة لا يختلف حوله اثنان، لكن هذا لا يعني انتقاد لهذه السياسة أو تلك أو انتقاص من قيمة هذا المسؤول أو ذاك، أو تحميل المسؤولية للإدارة أو الأستاذ أو الطالب. ذلك لأن الجامعة مؤسسة تفاعلية تؤثر وتتأثر، والوضع الذي تدحرجت إليه بعد الجريمة البشعة التي ارتكبت في حق أستاذ، تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه جنة الفردوس، من طرف طالبه والذي استوفت به كل شروط الوضع الحرج، هو نتاج ترسبات عبر السنين وليست وليدة مرحلة، أو سياسة، وعليه فإن مسؤولية ذلك مشتركة بين الجميع، إنها مسؤولية مجتمع برمته. الجامعة في آخر المطاف هي صورة مصغرة للمجتمع، تضم تنوعه وتناقضاته وتعكس واقعه بإيجابياته وسلبياته، لذا تجد فيها مختلف السلوكيات الموجودة في المجتمع، وتجد فيها من العنصر البشري الطالح منه والصالح وما بينهما. فالجامعة من حيث هي مؤسسة علمية بحثية وكما هو طبيعي أن تتأثر بالمجتمع الموجودة فيه، من المقروض بل الواجب أن تؤثر في هذا المجتمع، وهذا ما يعاب على الجامعة الجزائرية. فالجريمة التي شهدتها ليست المؤشر الوحيد عن انحراف المؤسسة العلمية عن وظيفتها، فجرائم من هذا القبيل تحدث حتى في الثانويات في دول متقدمة، ومتطورة في مختلف الميادين، لكن الفرق يكون دائما في علاقة هذه الجريمة بمستوى ووظيفة وواقع المؤسسة العلمية التي تحدث فيها. * الجامعة إحدى تجليات المجتمع في أمريكا مثلا تحدث جرائم أبشع من جريمة مستغانم، لكنها دائما تحدث كعمل استثنائي في تناقض رهيب مع الوسط الذي حدثت فيه، ولا تعبر عن حقيقة ما يحدث في المؤسسة ولا تشكك في رسالتها أو وظيفتها. لكن الوضع في الجزائر غير ذلك تماما فالانهيار الشامل الذي تعرفه المؤسسات التربوية يعكس وضعا مأساويا تعيشه هذه المؤسسات وينذر بمزيد من التعفن والتدهور، فجريمة الأمس تأتي ضمن مسلسل من التدني بدأ في يوم ما بتجاوز بسيط، ولا مبالاة، ثم تدرج عبر الأيام والسنين لينال من قيمة العلم ثم من أهمية الامتحان، ثم من وضع الطالب ثم من قداسة الأستاذ ثم من حرم الجامعة ليسقط في آخر التدرج في مستنقع جرائم القتل.. لقد انسحبت الجامعة من الحركية الاجتماعية والسياسية منذ سنين، وانطوت على نفسها تستقبل مختلف مكونات المجتمع ومشاكله وتتأثر بها، دون أن يكون لها في المقابل أي تأثير في ذلك، تعيش على هامش المجتمع تتكبد ضرباته فاقدة لكل قدرة على الرد أو حتى حماية نفسها من الانزلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية الحاصلة في البلاد، قي وقت كان من المفروض أن تكون في قلب هذه الحركية كقوة حية لإنتاج ومناقشة الأفكار وبلورتها، أو مسرح لغربلة ما يحدث في المجتمع وفرض ديناميكية سلمية تحصن المجتمع وتجعل من الجامعة منشطا فاعلا في الساحة لأنها تتكون من القوى الحية في المجتمع (الأساتذة والطلبة).. * نتائج وخيمة على الجميع إن تحييد الجامعة من قطاعات النشاط وقطع علاقتها بالمجتمع، ورضوخها لذلك هو الذي يفسر ما آلت إليه الأوضاع قي هذه المؤسسات الحيوية والحساسة. فقد كان لذلك نتائج وخيمة على الجميع، على الذين حيدوا الجامعة خوفا من أن يكون الطلبة قوة فاعلة للتأثير في الأحداث، وعلى الجامعة والذين اعتقدوا أن حياد الجامعة يضمن لها الاستقرار والتطور بعيدا عن الاضطرابات السياسية، وعلى المجتمع بمختلف اعتقاداته ومواقفه، والدليل على ذلك هذا الوضع الذي لا يحتاج إلى تحليل أو تدليل فالصورة واضحة للعيان ولا تتطلب ذكاء كبيرا إن الاستمرار في تسيير ومسايرة وحتى معالجة الوضع الراهن لن يوصلنا إلى بر الأمان ولا يخرج الجامعة من النفق لأن ذلك لن يكون في الأخير سوى محاولة لتسيير الأزمة بالمسكنات دون علاجها، وسيكون بمثابة إعادة إنتاج نفس نماذج الخطأ ونفس سيناريوهات الانحراف. إن الوضع الذي وصلته الجامعة يستوجب تغييرا في الإستراتيجية بإعادة الجامعة إلى حضن المجتمع وتمكينها من التفاعل الإيجابي مع الواقع بإخراجها من العزلة التي تعيش فيها والسماح باكتمال المعادلة أي "التأثر.. والتأثير" أيضا. وهذه مهمة الجميع، وليست مهمة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فحسب إنها قضية وطنية. * تفعيل دور الجامعة في الحركية الاجتماعية حقيقة أن إصلاح الجامعة مرتبط بجملة إصلاحات أخرى في مجالات أخرى، لا مناص من أن تكون شاملة ذلك لأن الجامعة حلقة في سلسلة المؤسسات الوطنية الحساسة التي تنتظر التفاتة جدية، لكن المسألة المطروحة في الوقت الحالي ليست مسألة أداء ومستوى فكري يسمح بتخريج العبقريات ويجد الحلول لمشاكل المجتمع، إنما بقضية جوهرية واستعجالية تتمثل في إخراج الجامعة من وضع الضحية المفروض عليها، وتمكينها من ردة الفعل من التفاعل مع الوسط الموجودة فيه أي إدماجها مرة أخرى في النشاط الوطني بمختلف قطاعاته الاقتصادية والصناعية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية لأن الجامعة لا يمكنها أن تتطور بمعزل عن هذه الحركية التي تضمن لها ألا تظل مجرد انعكاس لما يحدث في المجتمع تتحمل فقط، ذلك لأن طاقة التحمل لا يمكنها أن تستمر مهما كانت الجهود المبذولة من أجل ذلك، ولا يمكنها إلا أن تنتهي بانفجار أو انتحار لا قدر الله.