قد يكون العسكر ممن فعل بموريتانيا ما فعل خارج مجال التطورات العالمية التي أصبحت تتحكم في توجيه العلاقات الدولية، أو ربما لم يفهموها حق فهمها فاتخذوا القرار الخطأ في الوقت الخطأ، ولكن لا يجب أن يصلحوا ما أفسدوه بأكثر منه خطورة على أمن موريتانيا واستقرارها وتنمية ديمقراطيتها . يبدو أن عسكر شنقيط لم يحسبوا جيدا نتائج انقلابهم الأخير على ديمقراطية ناشئة كانوا قد أتوا بها على ظهور دباباتهم، بعد انسداد سياسي اعتبره الموريتانيون بوابة انسداداتهم الاجتماعية والاقتصادية وسبب تخلفهم المادي الذي كاد أن يعصف بالمجتمع، فلم يفرح شعب بانقلاب عسكري كما فرح الشعب الموريتاني بانقلاب العقيد محمد فال قبل أكثر من ثلاث سنوات ، حتى كاد البعض أن يضيف حالة الانقلاب الموريتانية إلى الأدوات الفاعلة الواجب توفرها في بناء الديمقراطيات العربية ، وأنجز العسكر ما وعدوا به ، وأفرزت الانتخابات التعددية التي أجروها رئيسا للجمهورية ينتخبه الشعب فعلا للمرة الأولى، وأصبحت نواقشوط الموغلة في الحضارة والمرمية في التخلف ، مثلا يضربه الحالمون بالديمقراطية الحقة ولأن المؤسسة العسكرية أحسست أو اعتقدت أن رياح المنهجية الجديدة في الحكم، يمكن أن تجتثَّ مصالحهم المكتسبة فجعلت من بعض الأخطاء الديمقراطية التي حدثت في الفترة الوجيزة من عمر هذه الديمقراطية ، قميص عثمان للإطاحة بهذه التجربة الغريبة والجديدة على فكر العسكراتية والقبلية معا . صحيح أن الرئيس المطاح به لم يغتسل من كل أردان الفكر القبلي ولم يتخلص من ثقافة الاستبداد الشائعة لدى المجتمع العربي، ودخل بكل ذلك قصر الجمهورية ، فأجج من حوله الاحتجاجات التي مست مختلف القطاعات بعد التغييرات "الثورية" إلى أن وصل إلى قيادة الأركان فكان ما كان وجاءته الضربة القاضية ، ولكن الصحيح أيضا أن حركة حوار ونقاش وتشاور كبيرة كانت تهز إيجابيا الحياة الموريتانية، وقد أخافت تلك الحركية كثيرا من المجتمعات العربية المصابة بالاحتباس السياسي والمغلقة على شعارات جوفاء أفقدت الكلمات مضامينها والجمل معانيها والمصطلحات مدلولاتها ولم يهنأ بال تلك المجتمعات حتىُ أسقِطت تلك التجربة، وتفرق الناس في موريتانيا بين انتهازيين هم دائما مع الحاكم مهما كان لونه، وبين آملين في عودة الديمقراطية حتى ولو في حدودها الدنيا، ولكن يبدو أن رياح المرحلة تسير في غير صالح الشعب الموزع على مجموعتين تفتقران إلى برنامج بديل للحالة غير الصحية التي يعيشها الشعب والحكم في نفس الوقت ، فالغرب - المندد في حياء بالانقلاب في انتظار تأكيد تأمين مصالحه من الملاك الجدد للسلطة- لم يجد بدا من الاستجابة لشعاراته المرفوعة، وانسجاما مع المواقف الإقليمية والدولية التي تلتقي مع بقاء مجاله الحيوي قائما، أمهل الانقلابيين بضعة أيام كي ُيعيدوا رئيس الجمهورية المنتخب المُنقلَب عليه، إيذانا بعودة المسار الديمقراطي، قبل أن ُيحكِم هذا الغرب حصاره على من يدَّعون أنهم انقلبوا على الديمقراطية من أجل تصحيحها ويزيد في عزلتهم قاريا وعالميا، وليس أمام سكان القصر الجمهوري الغرباء –المحاصرين إقليميا ودوليا- إلا أن يستجيبوا لنداءات الحكمة، ويعيدوا الحُكم إلى أصحابه ضمن خارطة طريق تقلل من الفجوة التي ما فتئت ُتبعِد موريتانيا عن مجتمعات الأمن والرغد، ذلك أن تحذيرات المنظمات الإقليمية والمجموعة الدولية التي أعطت المنقلبين وقتا محددا للعودة إلى الصواب السياسي، ستكون في حال تنفيذها وبالا على الشعب الموريتاني الذي سيكون الضحية الأولى وهو الذي ادعى العسكر أنهم جاءوا لإنقاذه من تسلط الديمقراطية إن الذين جاءوا بالديمقراطية ثم انقلب بعضهم عليها يمكن أن يخرجوا من ورطتهم – في اعتقادي – بانتهاج طريق العقل والاستماع إلى المعارضة الصحيحة وليس إلى تلك المعطوبة من أصحاب المسيرات" العفوية" بالاجتماع إلى الرئيس الشرعي المجبور على وضع لم يختره ، مع المؤسسات الدستورية القائمة، والوصول إلى حل ُيلزِم الجميع، ُيضمَن فيه للمخطئين العسكريين المغفرة، وللكسالى السياسيين انبعاث الاجتهاد الصادق، فيستقيم حال الديمقراطية التي بشَّر بها الموريتانيون أمتهم العربية والإسلامية، وكادوا يقودونها من بلاد الشناقطة إلى عالم عربي جديد أكثر تشاركية وشورى وحكم رشادة لولا فزع العسكر الذين حاصروا الشعب الموريتاني في ديمقراطيته فحوصروا حصارا سيخنقهم إن لم يعودوا إلى رشدهم ويستمعوا إلى إرادة الشعب الذي أكدت شرائحه الغالبة أنه لا يقبل الوصاية من أحد بعد أن بلغ أشده ...