الجزائر، من البلدان القليلة في العالم التي عرفت ظاهرة الإرهاب في أبشع صورها وأسوأ ممارساتها. الجزائر هي كذلك من البلدان التي لا تستفيد من التجارب المريرة التي مرت بها. في كل مرة يواجه الشعب الكوارث والمصائب بكل صبر وتحمل. بمجرد أن تنتهي الكارثة تعود الحياة إلى سيرها الطبيعي وننسى استخلاص الدروس والعبر. حال الجزائر كحال كل العرب الذين لا يستفيدون من التجارب التي تمر عليهم، مما يؤهلهم ليكونوا أكبر الشعوب قدرة على النسيان. في الجزائر، تم القضاء على الإرهاب الموسع الذي كان يضرب في كل مكان، ويحرم المواطنين حتى من حقهم في الخروج، أو التنقل إلى مناطق أو جهات معينة. الإرهاب الذي يغتال في وضح النهار وأمام الجميع، ويعتدي على القرى وحتى على الأحياء في بعض المدن.. هذا الإرهاب انتهى، وجاءت نصوص المصالحة الوطنية لتجد حلا قانونيا لكل الذين ظلت بهم السبل واقتنعوا، مع الوقت، بأنه لا توجد أية إمكانية للتغيير إلا بالطرق السلمية وفي إطار القانون واحترام الآخر، فقبلوا بالرجوع إلى جادة الصواب وكفى الله المسلمين شر الفتنة والتناحر. ولأن علة وجود أية سلطة سياسية هو ضمان السلم والطمأنينة للمواطنين والسهر على وجود توازنات معينة في البلد حتى لا تسيطر فئة على أخرى أو تستحوذ مجموعة على "حق" استعمال القوة ضد كل الآخرين الذين يخالفونها الرأي أو طريقة العيش أو النظرة للأمور. ولأن السلطة القوية هي، كذلك، تلك التي تعرف متى تسمح وكيف تمنح الفرصة، لمن يبحث عنها، للعيش كالآخرين دون إقصاء أو تمييز، بشرط احترام القانون، فأن هذه المهمة الأساسية –وكم هي مهمة !- لا يمكن لأية سلطة القيام بها، وكما يفرضه عليها القانون، دون أن تتوفر لها المعلومات الصحيحة عن المسائل والقضايا الأساسية المطروحة، وحول كذلك كيفية معالجتها. التشخيص السليم للداء والعلاجات المفيدة لا يمكن أن تصدر عن المتملقين والمداحين والذين يأكلون "في كل مثرد"، كما لا يمكن أن تصدر عن المسؤولين أنفسهم لأنهم معنيون بأسبابها وبنتائجها، بل تقترحها فئة معينة من الناس لا هدف لها سوى تحليل الظاهرة أو المشكلة بطريقة علمية وتقديم ما يناسب من علاج لكل حالة، بكل موضوعية وببدون خلفيات سياسية أو دينية أو جهوية أو غيرها. البلدان التي تعرضت لأزمات حادة، كالتي تعرضت لها الجزائر، باشرت، بمجرد عودة الأمور إلى حالتها الطبيعية، نشاطا حثيثا على كل المستويات بهدف فهم ما وقع وإدراك ما يجب القيام به، ليس بغرض الانتقام أو تحميل المسؤولية لهذا أو ذاك، بل لكي لا تكرر المأساة ثانية. لكن يبدو أن الجزائر، بسلطاتها ومثقفيها ورجال دينها، لا تولي هذا الأمر أية أهمية. لما وقعت أحداث ماي 1968 بفرنسا، والتي بدأت بإضرابات للطلبة، سرعان ما تحولت فيما بعد إلى مظاهرات أنضم إليها العمال والمثقفين اليساريين.. وكادت هذه الأحداث أن تعصف بالبلد وتدخله في دوامة من المشاكل والصراعات، ولم يتمكن رجل فرنسا القوي في ذلك الوقت، الجنرال ديغول، ولا تدخل قوات الأمن، من توقيف "تمرد الطلبة".. كان من نتيجة هذه الأحداث إدخال تغييرات عميقة مست معظم مجالات الحياة في فرنسا، خاصة في مجالي التربية والإعلام. بمجرد أن توقفت الأحداث راحت العديد من مراكز البحث والدراسات تحاول فهم ما جرى وما هي الأسباب التي جعلت الآلاف من الشباب الفرنسي يثور على النظم والقوانين، وقدمت مراكز البحث الاقتراحات التي رأتها مناسبة لتغيير ما يجب تغييره وتحسين ما يستلزم ذلك حتى لا يتكرر "تمرد" الطلبة. المئات من الكتب والدراسات صدرت، ولا زالت تصدر لحد الآن، حول هذه الأحداث التي مست فرنسا في العمق والتي يعتبرها البعض من الباحثين الموضوعيين من نتائج الانكسار الفرنسي في الجزائر. لنعود إلى الجزائر التي، كما قلنا أعلاه، عاشت أخطر السنوات وأصعبها منذ الاستقلال. الأمر لم يكن متعلق بتمرد طلبة أو إضراب فئة معينة بل بما هو أخطر: أمن الوطن والوحدة الوطنية. الجزائر كادت، لولا لطف الله وإرادة الرجال المخلصين من أبنائها، أن تنهار أمام الضربات التي كانت توجه لها من كل جهة، ومع ذلك، بمجرد أن زال الخطر نسي كل شيء. لا أحد كتب عن مرحلة الدم والعنف. لا من يدرس، ولا من يبحث، ولا من يفكر. الدراسة العلمية، الموضوعية، ومن طرف مختصين، وحدها كفيلة بتفسير الأسباب والمسببات التي جعلت بعض الشباب الجزائريين يتحولون إلى سفاحين لا يرحمون أحد. الأمر هنا لا يتعلق بالإرهاب فقط بل أيضا بما يعرفه المجتمع حاليا من أنواع الإجرام الذي ينتشر بشكل غريب ومخيف. يوميا تطالعنا الصحف بأخبار جرائم فضيعة كالذي أغتال أمه وهي تصلي أو الذي أغتصب عجوزا في السبعين من العمر، أو الشيخ الذي قام بتفجير سيارة خلال إحدى العمليات الإرهابية، والإطار الذي استولى على الملايير من هذا البنك أو ذاك، الخ.. إنها نتائج مرحلة الإرهاب، حيث فقدت الروح قداستها، وسقطت فيها هبة الدولة وهبة القانون، وتميزت بكل ما هو خارج العرف والأخلاق، وأحدثت في المجتمع الجزائري تغيرات جذرية مست كل نواحي الحياة. هذه المرحلة، رغم خطورتها، بقت بدون دراسة أو عناية واهتمام. البحث العلمي، ومن طرف مراكز بحث تابعة للقطاع الجزائري الخاص-وليس العام- من شأنه أن يقدم تشخيصا للمرض ويقترح العلاج الضروري حتى يمكن تجنب آثار الإرهاب التي نراها، اليوم، في كل مكان وحتى لا تتكرر المأساة بشكل أو بآخر. تفكير النخبة -إن وجدت- في هذا الموضوع وحضورها، من خلال وسائل الاتصال والنشاطات المختلفة، بالقرب من الشباب، يساهم في خلق علاقات ثقة بين النخب –المثقفة خاصة- وبين الشباب، ومع الوقت، تتحول هذه النخب إلى رموز إيجابية تعيد الأمل إلى من فقده وترسم الطريق أمام من يبحث عنه. لحد اليوم، لا أحد أهتم أو يهتم بمرحلة ما بعد الإرهاب. ما هو منتظر القيام به ليس فقط منع الشباب من "الحرقة"، أو حمايته من "الزطلة" أو مرض "السيدا"، أو التصدق عليه ببعض الدنانير في إطار الشبكة الاجتماعية. هذه إجراءات لا تقدم حلولا جذرية. الجزائر في حاجة ماسة إلى مشروع وطني يعيد الأمل لهذه الفئة التي تمثل ثلثي المجتمع، ويحولها إلى قوة بناء وتغيير نحو الأفضل والأحسن. قوة مؤمنة بالمستقبل في الجزائر وتعمل من أجل جزائر قوية وعصرية. المشروع الوطني تخططه وتنجزه النخبة الوطنية بكل مشاربها وبدون تمييز أو إقصاء. ثلاثة قطاعات أساسية في الجزائر بإمكانها المساهمة بفعالية في إحداث التغيير الإيجابي، وهي: المدرسة، المسجد ووسائل الاتصال الثقيلة. في المقالات المقبلة سنتعرض لكل واحد من هذه القطاعات على حدة وكيف يمكنها القيام بدور رئيسي في عملية إعادة "بناء" عقلية الفرد الجزائري.