"سئمنا من الحياة.. فكلما حل فصل الشتاء تزداد مخاوفنا وإذا هطلت الأمطار ندعو الله أن تمر الليلة بسلام، هاجسنا الوحيد هو أن يرحل فصل الشتاء دون أن نعد الأموات ونعيد بناء الأكواخ..." هذا الكلام جانب من تصريحات سكان حي البهجة القصديري بالقرية الفلاحية التابعة لبلدية زرالدة بالعاصمة الذين يتجاوز عددهم 850 عائلة، والذي لا يبعد إلا بحوالي أربع كيلومترات عن إقامة الدولة، وما زاد الأمر خطورة هو نزوح الأوحال وفيضانات "وادي مزفران" المحاذي للأكواخ مما يشكل خطرا حقيقيا على حياة السكان ، خاصة وأن مأساة العام الماضي لا تزال في الأذهان. صادفتنا مشاهد تنفطر لها القلوب وتقشعر لها الأبدان رغم قصر الجولة التي قادتنا إلى ما يسميه أبناء الحي ب "الحي البائس" لأننا اخترنا أن تكون الساعة التي نزور فيها العائلات متأخرة نسبيا لنقاسمهم ظلمة الليل البارد بسبب انعدام الكهرباء، وفي ظل انخفاض درجة الحرارة وتساقط الأمطار الغزيرة، وكان الجو العام في السكنات التي زرناها بالفعل متسما بالمخاوف من ازدياد هطول الأمطار فالنوم بسلام غير مضمون كما أنه ليس محمود العواقب. هكذا فتحت لنا بعض من عائلات حي "البهجة" قلبها حتى تتمكن من نقل معاناتها إلى المسؤولين، فهذه "ن•ر" أم لطفلين، الأكبر يبلغ من العمر 13 عاما أما الفتاة فعمرها لايزيد عن 5سنوات ، قالت أنها تعيش مأساة تكرر ملامحها كل فصل شتاء، فهي قاطنة بالحي منذ أكثر من 11 سنة، أكدت لنا أن أطفالها يعانون الأمرّين حيث تضطر كل صباح هي وزوجها إلى حمل طفليهما بسبب كثرة الأوحال التي تتجمع أمام مدخل الكوخ . وأمام تذمر "شيماء" و"خالد" تبقى الأم المسكينة بدون حيلة ولا تجد من حل لتجاوز محنتها سوى محاولتها تنظيف المكان ولكن دون جدوى لأن سقوط كمية قليلة من الأمطار يكفي لإعادة الوضع إلى حالة أسوء من سابقتها، هذا دون الحديث عن البرد القارص طيلة الفصل ودرجة الرطوبة المرتفعة، تقول محدثتنا انها تستعمل تغطية كثيرة و سميكة لتقي صغارها من لسعات البرد، لكن تبقى أمراض الجهاز التنفسي تترصدهم لأنهم دائما يعانون من زكام حاد يستمر طيلة فصل الشتاء. وعن فيضانات العام الماضي أضافت المتحدثة أنه إذا ما سقطت الأمطار تتناوب مع زوجها طيلة الليل على النوم والحراسة خوفا من حدوث كارثة مشابهة، فالمناوبة في مثل هذا الوضع يضمن الفرار بعيدا عن السيول الجارفة. خرجنا من بيت "ن.ر" المتواضع لنتوجه إلى كوخ آخر لصاحبته "أ•ز"، مشينا في أزقة ضيقة وظلمة المكان زادت الأمر صعوبة وأصوات السيول الجارفة في الوادي المحاذي للحي أثارت تخوفنا نحن أيضا لأن الوضعية لا يمكن وصفها سوى ب "الكارثية"، وبعد معاناة كبيرة وصلنا بصعوبة إلى وجهتنا فاستقبلتنا صاحبة المنزل بحماس وحيوية رغم تلك الظروف، قالت إن عمرها 27 سنة وهي أم لكل من "محمد" 5 سنوات و"ميليسا" صاحبة العامين، كوخها يتكون من غرفتين واحدة للنوم وأخرى تستغلها العائلة للطبخ. كانت الساعة تشير إلى حوالي السابعة ونصف مساء عندما وصلنا إلى بيت "أ.ز" وقد وجدناها تحضر فراش نوم أطفالها، كان أغلبه أغطية وبطانيات متوازية على الأرض مغطاة بكيس بلاستيكي شفاف وسميك، وأمام الفضول الذي انتابنا بفعل هذا الديكور غير المعهود بادرنا إلى الاستفسار عن سبب ما قامت به، لم تتردد في الإجابة التي أوضحت بموجبها أن سقف الكوخ الخشبي به ثقوب تسمح لقطرات المياه بالتسرب إلى الداخل لذا تستعمل أغطية لنتفادى تبلل الفراش، وكم كان الوضع مزريا ولكم أن تتصوروا حجم هذه المأساة. وأضافت محدثتنا وعلامات الحزن والحسرة بادية على ملامحها أنها خوفا من اختناق صغارها تنام بجوارهم، إذ استطاعت النوم بسبب هاجس إمكانية حدوث فيضانات بالوادي الذي لا يبعد عنها إلا بمترين فقط، وقد أثارت ملامح الصغير "محمد" البريئة انتباهنا لأن وجهه كان يحمل أثر جرح عميق أكدت لنا والدته أنه سقط صباح نفس اليوم وهو في طريقه إلى المدرسة بسبب الوحل الذي أغرق الأزقة الضيقة ولو لا تدخل الجيران لكان ضمن قائمة الضحايا الذين جرفتهم مياه الوادي. وفي غمرة حديثنا مع صاحبة المنزل أمام المدخل قاطعنا أحد الأطفال واسمه "مؤمن" لا يتجاوز سنه 12 عاما ليؤكد لنا بنبرة المتذمر أن عائلات الحي سئمت من المعيشة المزرية التي تعوّدت عليها منذ سنوات، ولم يخف غضبه أيضا مما يعانيه يوميا فهو كل صباح يحضر لوازمه المدرسية ليتوجه إلى الإكمالية التي تبعد أكثر من كيلومتر ونصف عن مسكنه، يقطع الأوحال وبرك المياه العكرة فتتلطخ ملاسبه وهو ما يجعل زملاءه بالقسم يسخرون منه، وإذا نجا من هؤلاء فإن الأساتذة سيكونون له بالمرصاد فرغم درايتهم بوضعيته الاجتماعية الصعبة وعلمهم بأنه من أبناء سكان حي "البهجة" فإنهم لا يتقبلون الأعذار حيث كثيرا ما يتعرض للتوبيخ، زيادة على أنه يعاني من "مرض الربو" ويجد صعوبة في التنفس طيلة الليل خاصة في هذا الموسم، وختم حديثه أن اهتماماته بالدراسة تقل بسبب البرد الشديد والشتاء ما زال طويلا "والله يستر.."، ولا يستبعد إطلاقا إمكانية تطليقه الدراسة بالثلاث إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه. أكد لنا المدعو "عبد الله.م" الذي يقطن الحي منذ العام 1999، أن المشكل الرئيسي للعائلات هو أن الحي يوجد بمحاذاة وادي مزافران، وما زاد الأمر خطورة على حد تصريحاته هو أن مجموعة من الشاحنات تتداول أكثر من مرتين في الأسبوع على الوادي لتفرغ كميات معتبرة من النفايات والأتربة دون رقيب أو حسيب، وهذا العمل "الطائش" على حد وصف محدثنا الذي بدا في قمة الغضب والاستياء أدى إلى تقلص عرض الوادي مما يعني آليا تواصل ارتفاع منسوب المياه بالنظر إلى ضيق المجرى إلى درجة أنه أصبح لا يفصل بين الوادي ومنزله سوى متر واحد. ولتأكيد صحة أقواله والوقوف على حجم الكارثة دعانا "عبد الله" للدخول إلى غرفته الخاصة فلاحظنا أن الجدار المحاذي للوادي به شقق من الأعلى إلى الأسفل ومهدد بالانهيار في أي لحظة وأطفاله ينامون في الغرفة ذاتها، وأضاف المتحدث أن مجموعة من السكان حاولت منع سائقي الشاحنات من رمي النفايات في الوادي لكن هذه المحاولات باءت بالفشل وذلك لأن البلدية رخصت برمي القاذورات والمخلفات من الأتربة في تلك المنطقة على حد تصريحات سكان الحي. أضاف "عبد الله.م" أن فيضانات العام الماضي سببها الرئيسي، هو تقلص مجرى الوادي ونزوحه، وكانت حصيلة الكارثة حينها تدمير ثلاثة أكواخ وإغراق كل البيوت بالمياه بالإضافة إلى انهيار "جسر مزافران" وهروب أغلب السكان الذين تعرضوا للسرقة والنهب في تلك الظروف، وعندما سألناه إن كانت مصالح بلدية زرالدة قد تدخلت لإخلاء المنطقة المنكوبة، رد علينا أنه "باستثناء مصالح الأمن ويتعلق الأمر بالشرطة الجوارية للقرية الفلاحية، لم نر أي مساعدة ولم نلمس أي تعاطف من البلدية بل عانينا تجاهلا ما بعده تجاهل"، وما أثار غضب السكان أيضا أن فيضانات العام الماضي تزامنت مع الانتخابات المحلية واتخذها البعض فرصة لتلميع صورتهم عندما أطلقوا وابلا من الوعود والالتزامات للفوز بأصوات ما لا يقل عن 850 عائلة، ولكن بمجرد انتخاب المجلس الشعبي البلدي الجديد أصبح الحي القصديري من آخر أولويات هؤلاء المنتخبين، وخلص المتحدث إلى القول بأن على الرغم من أن بعض منتخبي البلدية زاروهم بعد تجاوز محنة الفيضان وقدموا وعودا لم تتحقق بعد مرور سنة إذ أن حالتهم تزداد تدهورا يوما بعد يوم، وقد حاولنا بالمناسبة الاتصال بالسلطات المحلية ببلدية زرالدة لكن دون جدوى.