••• قد ينفخ الديك ريشه، لكن ذلك لا يعني بالضرورة قوة العضلات ومتانتها••• وقد يزعج كل الحي بصياحه، غير أن ذلك لا يعني الزئير••• وعوض الرعب، فإن الضحك واللامبالاة هما الرد الوحيد على مثل ذلك الزعيق•••! فرنسا، تحاول دائما، أن تظهر وكأنها قوة كبرى، أو دولة عظيمة، وكثيرا ما ضحكت على عقول البلهاء بهذا الوهم الذي تسوقه، وعالمنا العربي، بعد إفريقيا، وراء الصحراء، هو أحد ضحايا هذا الخداع• في حركة مسرحية لها طنين، قررت منذ أسبوعين إرسال فرقاطة إلى شرق المتوسط لمراقبة سواحل غزة والحيلولة دون تهريب السلاح•• ومع محاولة التهليل الإعلامي الذي صاحب القرار•• إلا أن ذلك لم يسترع مثل هذا الزخم الإعلامي الذي صاحب قوارب كسر الحصار التي قادها متعاطفون مع الفلسطينيين من الأوروبيين• مبرر باريز، لدى إرسالها تلك الفرقاطة الى سواحل غزة، أن الأمر يندرج في سياق تطبيق قرار مجلس الأمن، ومع ما في هذا الإدعاء من سخافة، باعتبار أن القرار المذكور يتعلق بجملة من التدابير والآليات من ضمنها وقف القتال وفتح المعابر ورفع الحصار، إلا أن فرنسا تصرفت في هذه الحالة مثل ذلك التوراتي الذي انتقى من الألواح العشر، لوحة واحدة لأنها تتناسب ومزاجه وهواه• وهم العظمة لدى فرنسا ليس وليد اليوم، فهو بعض من الإرث الديغولي، ودون الدخول في تفاصيل إخفاقاته التاريخية•• فإن أكبر شاهد على فشله هو ما حدث خلال حرب العراق الأولى حيث شاركت فرنسا بقيادة فرانسوا ميتران في هجوم عاصفة الصحراء بفرقة قوامها أحد عشرة ألف جندي بقيادة جنرال•• لكن بعد خروج العراقيين من الكويت، لم تجن فرنسا من ذلك سوى خفي حنين كما نقول في مثلنا العربي، فكل الصفقات وكل العقود استحوذ عليها الأمريكيون، ثم حلفاؤهم الأبديون الأنجليز••• شكل ذلك صدمة لفرنسا على كل المستويات، وربما كانت تلك الواقعة هي الدافع الحاسم في موقف باريز المعارض للحرب الأمريكية ضد العراق التي قررها بوش عام 2003، بل معارضة شيراك الصريحة لها•• غير أن الحنين للعظمة والوهم أن فرنسا قوة كبرى بقي دوما يراود كل السياسيين وكل مراكز صنع القرار، إنه إحدى المورثات الجينية••• في عهد ساركوزي عاد هذا الوهم بقوة، صاحبه زخم إعلامي دعائي لا نظير له••• والرئيس ساركوزي شخصية ليس فقط معجبة بأسوإ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدة جورج بوش•• إنما بينهما عوامل مشتركة حسب المحللين وحسب المقربين منهما، فالاثنان يمجدان القوة، كما الإثنان يحملان كرها شديدا للعالم العربي - الاسلامي، والاثنان، لجذور دينية وعرقية، يعتبران إسرائيل تتمتع بالحق الإلهي••• ضمن منظور هذا الوهم، لعل الكثير يتذكر تلك التصريحات المدوية التي أطلقها كوشنير وزيره للخارجية منذ حوالي سنتين، أي في الأسابيع الأولى لتولي ساركوزي الرئاسة، حين أنذر إيران بالحرب إن لم تتخل عن برنامجها النووي•• وحينها تساءل الكثيرون عن دوافع ربط جوق باريز مع جوق واشنطن التي كانت تطرح كل الاختيارات للتعامل مع القضية بما في ذلك الاختيار العسكري، وإذا كانت الإدارة الأمريكية قادرة تقنيا وعسكريا واستراتيجيا على القيام بمثل هذه الخطوة، هل لفرنسا القدرة على ذلك؟•• أكيد، والإيرانيون قابلوا تلك التصريحات الدينكوشوتية ببرودة تامة، يدركون وهم أول بلد يخترع لعبة الشطرنج، أن فرنسا تحاول فقط إيجاد مجال خارج أوروبا التي استحوذت عليها ألمانيا بفضل قوتها الاقتصادية والصناعية والمالية• وبالتوازي مع هذا الزعيق والإيحاء بالقوة كان الموقف من سوريا، التي تم تهديدها، لكن ذلك لم يثمر، فكان أن وجهت للرئيس بشار الأسد الدعوة لحضور القمة المتوسطية في باريز في جويلة 2008، بل استقبل كضيف شرف فيها••!• وعلى ذكر تلك القمة التي كانت تتويجا للفكرة الفرنسية حول الإتحاد المتوسطي، الذي كان الدافع الأساسي لطرحه هو التعويض عن فقدان باريز للدور الأوروبي سواء التقليدي منه في أوروبا الغربية أو الجديد الذي توسع فضاؤه بانضمام بلدان القارة العجوز التي كانت سابقا ضمن الكتلة الاشتراكية، والأمر في كل هذا التطور أن فرنسا، لم تجد لنفسها مكانة فحسب، بل فقدت حتى منزلتها السابقة•• لكن، أليست غزة جزء من هذا الفضاء المتوسطي الذي تدعي فرنسا أنها تريده مجالا للتعاون والتواصل الإنساني والتنموي وللحوار••؟ إن إرسال فرقاطة للحصار البحري بالموازاة مع الحصار البري الإسرائيلي يناقض إعلان النيات هذا••• إن كل هذه التصرفات وهذه الخرجات، تعكس كابوسا حقيقيا لتراجع مكانة أصابها الوهن، وضمن محاولات التميز فإن تغريد باريز خارج السرب فيما يتعلق بانضمام تركيا للإتحاد الأروبي، إن كان يعكس من جانب حالة نفسية للرئيس ساركوزي تجاه المسلمين•• فهو من زاوية أخرى يعكس مدى الحنق والغيظ إن كان غير معلن فهو محسوس تجاه ألمانيا باعتبار أن برلين لا تؤيد فقط انضمام تركيا، وإنما كون هذه الأخيرة ستكون في صفها مما يعزز مكانة ألمانيا التي لديها جالية تركية تقارب الأربعة ملايين نسمة، لتمسي هي النقطة المحورية الأوحد في الفضاء الأروبي••• باستثناء بعض البلدان الإفريقية وراء الصحراء التي لا يأبه لها أحد، فإن عالمنا العربي للأسف الشديد هو الوحيد الذي يغرر به هذا الوهم الفرنسي لمجد ولى•• ومع أن فرنسا ساركوزي لا تشبه في شيء فرنسا دوغول التي كسبت بعض الصيت والإحترام نتيجة ابتعادها عن الفلك الأمريكي بالنسبة لقضايا العالم العربي، والأمر هنا نسبيا، إلا أن بعض الدول العربية لم تستوعب الانحياز الفرنسي الكامل لإسرائيل خلال عهد ساركوزي، بالإضافة لولائها غير المشروط للخطط الأمريكية إبان عهد بوش، حيث أعادت فرنسا انضمامها للقيادة المشتركة للحلف الأطلسي التي انسحبت منها في الستينات إبان عهد دوغول••• وحين تعلن إدارة أوباما نيتها في الحوار مع إيران مثلا عكس موقف الإدارات السابقة، فإن فرنسا ستجد نفسها وحيدة في نهج التشدد الأجوف الذي سلكته لحد الساعة•• وقد يكون لها بعض العزاء في موقف بعض الدول العربية في المنطقة، وهنا يبرز الموقف الشاذ الذي أعلنه قبل أسبوع وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط حين قال أن إيران هي سبب المشاكل في المنطقة••• ترى هل أصبحت إسرائيل هي عامل الاستقرار؟•••