صحيح أن العمر محدود مهما طال، وكل إسراف في ساعات هذا العمر أشد خسارة من الإسراف بالمال، لأن المال مادة يمكن الحصول عليها بالعمل والجد، أما الوقت الضائع فلا يمكن أن يستعيده الإنسان مهما جدّ أو عمل. في هذا السياق، يأتي كتاب ناسك القبة الأستاذ/ محمد الصالح الصديق (الوقت في حياتنا..كيف تأخرنا بإهماله وتقدّم غيرنا باستثماره، من خلال تحليل لقيمة الوقت وتشريح كل أبعاده وجوانبه. الكتاب الجديد، من إصدار دار هومة، يقع في (240) صفحة، يضم إحدى عشر فصلا وملاحق، يتصدره إهداء إلى أولئك الذين يسابقون الزمن، ويؤثرون التعب على الراحة، والحركة على السكون، ولا يواجهون وقتا إلا بعزيمة أقوى، وإرادة أمضى، وتخطيط أحكم حتى يكون ذلك الوقت أكثر فائدة ونفعًا، فقبسات من القرآن الكريم ومن هديه صلوات الله وسلامه عليه. استهل المؤلف الفصل الأول بتعريف الوقت ودلالته عبر الزمن وقيمته التي لاتقدر بثمن، وما قيل في الوقت، خاصة في القرآن الكريم التي تحث آياته على تنمية مواهبه وترقيتها، واستثمارها في العمل الصالح المفيد، وبناء حياة كريمة، تعود بالفائدة له ولمجتمعه، وكيف أن القرآن الكريم يحث على العمل، والسعي للرزق، وبذل الجهد في سبيل حياة أفضل تكون لها آثار ايجابية على المجتمع برمته. بعد بيان قيمة الوقت في القرآن الكريم، ينتقل بنا المؤلف إلى الحديث عن قيمة في السنة النبوية الشريفة، وكيف أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يحثنا على اغتنام فضيلة الوقت واستغلال أوقات الفراغ بما يعود بالمنفعة على الفرد والمجتمع، وأن الإنسان عليه أن يغتنم خمسا قبل خمس: الحياة قبل الموت، والصحة قبل المرض، والفراغ قبل العمل، والشباب قبل الهرم، والغنى قبل الفقر، وهي بحق قواعد أساسية في هذه البسيطة. وفي موضع آخر من الكتاب، يبحر بنا ناسك القبة حول أسرار الأوقات، وأن هناك تفاوتًا بين الأزمنة قدرا وشرف، ووزنا وقيمة، وهي حقائق لا يعلمها إلا الله تعالى. كما أن للأمم والشعوب أيامها البارزة لصلتها بأحداث تاريخية غيرت مجرى التاريخ أو كان لها شأن عظيم على مستوى تلك الشعوب. ثم يستعرض الكاتب ما قيل في قيمة الوقت من العلماء والأدباء على مر التاريخ، ويتوقف عند شكوى الزمان وانقلابه بأهله، باعتبار أن الأيام يوم لك ويوم عليك، وأن الزمن محطة لكل الهزات والمصائب، التي لا حول للإنسان ولا قوة بقضاء الله وقدره، سنّة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وفي فصل آخر، يضع ناسك القبة أمامنا نماذج للاقتداء ممن من حافظوا على الوقت واستغلوه بدقة وحكمة، وجعلوا حياتهم كلها جهاد وتفان وتضحية من أجل سعادة الآخرين، حتى ضاق وقتهم عن عملهم، فكانوا يتمنون لو يباع الوقت لاشتروا على الخاملين المهملين أوقاتهم، ودفعوا كل غال ونفيس لاستثمار وقتهم المهدور، فشقوا طريقهم إلى المجد ويبلغوا ذرى الرفعة والسمو كرسالة سامية في حياتهم. ويستعرض ناسك القبة، نماذج من العلماء كرست حياتها في خدمة مجتمعاتها فحسب أمثال الإمام عبد الحميد بن باديس الذي قضى حياته مجاهدا بقلمه ولسانه حتى تحطم وهو لما يتجاوز الخمسين من عمره، وجمال الدين الأفغاني، والرافعي، وابن الجوزي، وكثيرون تعرض لهم الكاتب، بما في ذلك علماء أجلاء من الغرب مخترعين وأدباء مثل أديسون، وشارل ديكنز. كما يتعرض لأدباء ومفكرين أبدعوا في غياهب السجون واستغلوا وقتهم كأبي تمام وابن زيدون وشاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا، وفولتير وباكن وآخرين. ويختم المؤلف كتابه بدراسة مقارنة عن أهمية الوقت عندنا نحن وعند غيرنا، وكيف استثمر غيرنا الوقت وأدركوا أسراره، فسابقوا الزمن حتى صعدوا الفضاء كأن الأرض ضاقت بهم، وكشف أسرار المجرة السماوية، وكيف تأخرنا نحن فلا حبّ للعمل أو احترام للقانون، وتقدير للوقت، حتى أننا أصبحنا اليوم نعيش أمام معادلة صعبة وهي أن الأقليّة تشقى والأكثرية تتفرّج بل وتعطل الناس في العمل. وإجمالا، فالكتاب جدير بالاقتناء لأنه يأتي عن تجربة وثمرة حصاد من مؤلف كان ولا يزال يضع الوقت في مرتبة القداسة التي يتعبد في محرابها. فالكاتب استطاع بقدر كبير النفاذ برؤاه وفكره حول فضيلة الوقت، ليكشف خلفيته، ويحللها بإسهاب فاق كلّ تصور.