التقيت بصحافي شاب مكتئبا، كان يشعر بالمرارة والغبن، وتدفقت منه الكلمات دون ان اسأله، أتدري ما وقع معي؟ فقلت ومن أين لي أن أعلم؟ قال الشاب: لقد تم تكليفي من مؤسستي الإعلامية، بأن أقوم بتغطية نشاط المترشح فلان، وشعرت بسعادة غامرة لخوض هذه التجربة، وبعد التجمع الأول اقتربت من المترشح، وسجلت حديثا معه، وشعرت بسروره لوجودي، وخاطبته يا سيدي أنني مكلف بتغطية حملتكم، وأطلب منكم ان تسهلوا لي أمر التنقل والأكل، وهنا سدد المترشح نظرة حادة تجاهي، وقال بصوت مسموع: يا هذا ان حزبنا هو حزب الفقراء، ولا يستطيع التكفل بكم، فقلت له: أنا لست مناضلا في حزبكم حتى أكون من المتطوعين للعمل فيه، وحتى لو أردت التطوع فإن إمكانتي المحدودة لا تكاد تغطي تنقلين من تنقلاتكم، وهنا قال لي: اتصل بفلان المكلف بهذا الأمر، وفعلا اتصلت به ولكن لم أظفر منه بقليل ولا كثير. هذه القصة على بساطتها، تختزل العلاقة المشوهة بين الصحافي والسياسي، فالسياسي ينظر للصحافي على أنه "بوق"، ينفخ فيه ما يشاء، وعليه أن يقنع إن ظفر بحديث أو لقاء، فهو ناقل لصدى صاحب الصوت، إن لم يكن مطلوبا منه ادخال التحسينات المناسبة، فيتحول الصوت المنفر الأجش، إلى سنمفونية عذبة رائقة، وهذه نظرة تختزل الاعلام في جهاز دعائي، فإذا أخطأ السياسي يسوق الصحافي بين يدي الخطأ الواحد عشرات التأويلات، وأن قصد سعادته أو فخامته لم يكن كذلك... وهذه النظرة، زجت بفصيل من الصحافيين إلى ابتزاز السياسي، فيصعد بعضهم من نبرة الإنتقاد، وكل قصده أن يظفر بلفت النظر إليه، أي أن يصبح مالكا لورقة لعب، يدفع ثمنها لإسكاته وخطب وده، لأن السياسي يزعجه كل صوت لا يعزف لحن الوفاء، ويؤِِرقه كل كلام يخالف ايقاعه، وتلك نكبة كبرى تصاب بها الأمم، فأخطر ما يصيب الساسة هو أن تعتاد أذانهم سماع كلمة نعم، ونفورهم من قول لا، لأن نعم يحسنها كل منافق، يتخذها مطية لركوب كل الأمواج، و"لا" قد تكون صيحة نذير مخلص، يرى الخطر فأبى أن يبيع ضميره للشيطان... وقديما قيل: "خصم عاقل خير من صديق أحمق"، وهل النفاق إلا قمة الحمق، فالقلم وما يسطره هو شرف صاحبه، فإذا باع شرفه كان أقل شأنا من تلك التي تأكل من ثديها، فصاحب القلم الشريف إن لم يستطع قول الحق، فلا يقولن إلا الحقيقة، فالحق مر وتبعاته ثقيلة، لأن الحق هو تلك المثل الكبرى التي تحتكم لميزان العدل والعقل، ولا تتلبس برغبات النفس ونوازع حظوظها، وهذا أمر شاق وعسير على كثير من الناس، لكن بمقدور كل كاتب أن لا يقول إلا الحقيقة، وهي نقل الأمور كما هي، دون زيف ولا تزكية، ودون زيادة ولا نقصان. السياسي يريد أن لا يذكره الصحافي بالحق، لأن الحق موجع، ولا يريد منه أن يدون الحقيقة، لأن حقيقة السياسي متغيرة، وتذكيره بها يعني اعادته إلى الوعي والمنطق، وهو لا يحب إلا الهروب إلى الأمام، يحقق الإنتصار على الزمن بمرور الزمن، وتذكيره بالحقيقة معناه مساءلته، وأبغض شيء إلى قلب السياسي هو المساءلة.. سمعت يوما صحافيا يقول: الحرية ليست شرطا لترقي الإعلام، وعندما ناقشته في الأمر وجدت أن فهمه للحرية مغشوش، فالرجل لا يرى فيها إلا الفوضى والتسيب، وأضاف هل تستطيع أن تنكر فعالية الاعلام النازي، في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، أو جدوى الإعلام الشيوعي في زمن الإتحاد السوفياتي، فقلت له: إن الرد على سؤالك في سؤالك، فأين هو الإعلام النازي أو الشيوعي اليوم، فالفرق بين الحرية والإلتزام رفيع، فالحرية المقصودة هي التي تسمح للكفاءات أن تبرز، وللمواهب الكبيرة أن تعمل، فالفوضى التي تحكي عنها هي تعويم للسوق بالرداءة، وتدفع بالناس إلى اليأس، وهل تظن أن الحرية عندما تتاح أمام الكفاءات الجادة مضرة؟ إن صاحب العقل الذكي والفكر السوي، لن يكون أقل وطنية منك، وسوف يخدم وطنه بما يمليه ضميره عليه، لكنه لن يرضى أن يكون عصا في يد الراعي يهش بها على غنمه، لأنه يشعر في تلك اللحظة أنه خان الراعي والرعية.