توفيق رباحي trebahi@gmail.com بسم الله يا هادي..أكتب عائدا من الجزائر. كلما هممت بالسفر إليها أصابني نوع من الاكتئاب الغريب. ليس بسبب الجزائر ولكن بسبب ما يحيط بالرحلة، قَبلاً ومن بعد. أكره أجواء المطارات. وأكره تلك النداءات التي تبعثها مكبرات الصوت من دون انقطاع أن يا أيها الناس من رأى منكم حقيبة مشبوهة أن يبلّغ عنها، وأن عليكم الالتزام بكذا إرشادات الأمن، حتى يخيّل إليك أن القيامة ستقوم في الساعة المقبلة. وتلازمني فوبيا دائمة من أنني سأفقد وثائقي أو أجد نفسي في دوامة أمنية لا يتمنّاها أحد. كنت في طابور طويل لاستخراج بطاقة الركوب مع الخطوط الجوية الجزائرية الجزائرية من مطار هيثرو عندما رنّ هاتفي. على الخط صديق اعتاد على تبليغي الأخبار ناقصة أو مشوّهة: قالوا راهم ضربوا الدزاير. سألت: من هم وماذا تقصد؟ قال: بولحية كلاطاوها في دزاير. أسأل ثانية: أين بالضبط. قال: لا أعرف، لقد قال لي فلان إنهم »داروها«. هو ذات الصديق الذي أبلغني بفيضانات باب الوادي في 2001. بنفس الغموض وقلة الدقة اتصل بي يومها وكان يوم سبت: قالوا الدزاير غرقت. استفسرته: فهّم روحك! قال: "وقيلا ضربها الطوفان... هذا واش قالولي". هكذا نحن الجزائريين، يبدأ الخبر مبتورا من المصدر فيصل الى المستهلك الثاني أو الثالث إشاعة أو يصل »الكرطون فارغا«. انتهت المكالمة. كان رأسي مشغولا بما جرى في الجزائر عندما اقتربتْ سيدة متحجبة من شابة شقراء جميلة تقف متباهية بقوامها الرشيق. سألتها بالفرنسية: اختي، أنتِ جزائرية؟ فردت الأخرى بالإيجاب دون أن تلتفت نحو السائلة. قالت الأولى في ما يشبه البله: معليش نسجل معاك... عندي بزّاف الباغاج وخايفة يقولولي تخلصي. كان عدد الحقائب في طابور المنتظرين يفوق ثلاثة أضعاف عدد المسافرين. رفضت الشابة مستغربة طلبا كهذا. لم تجتهد السيدة الأولى كثيرا وكأن شكل وصرامة الشابة أخافاها. في أثناء بحثي عن تفسير لبله كهذا، شدّني صوت شاب عاصمي في الصف الذي أقف به وهو يكرر بحدة وثقة: أنت ما تدير والو.. برك حطلو الكابا! كان هذا يخوض هو الآخر معركة إقناع مسافر لا يعرفه بضرورة أن يسجل له حقيبة أو اثنتين كي لا يدفع ثمن الوزن الإضافي. يبدر هذا من مسافرين جزائريين رغم النداءات المتكررة في المطار التي توصي الناس بتجنب الأمتعة والحقائب المشبوهة أو المجهولة، ورغم ان الموظف لا يملّ من سؤال المتقدمين نحوهم »هل أنت شخصيا من رتّّب الحقيبة؟«. بل إن هذا لا يبدر إلا من مسافرين جزائريين كأنهم لا يعيرون عناية للمحيط الذي من حولهم. فهؤلاء المسافرون هم ذاتهم الذي يقفون بسرعة ويبدأون العبث بأمتعتهم حالما تحط الطائرة في الأرض، قبل توقفها، ورغم نداءات الطاقم التي تترجاهم البقاء جالسين »إلى غاية التوقف التام للطائرة«. فهم يفعلون العكس تماما كأنهم نُصحوا بالوقوف والحركة. بدأ أحد المضيفين توزيع الجرائد داخل الطائرة. بدل أن يستفسرك أية صحيفة تريد، يسأل: عربية ولاّ رومية؟ عندما وصل نحوي قلت: »بين زوج من فضلك. تأسف: ما يكفيوناش يا خو«. فقلت: عربية. ناولني »الجزائر نيوز«. في صدر الصفحة الأولى صورة الشاب مامي ومانشيت يعد فيها بأنه سيخرج منتصرا من مشكلته الأخلاقية والقضائية مع المصورة الفرنسية وسيعود لدعم ترشيح صاحب الفخامة لعهدة رئاسية ثالثة. على كل حال لا أحد في عجلة من أمره، فحتى إذا تماطل القضاء الفرنسي ولم يسعفه الوقت، يمكنه ان يلتحق بالقطار في العهدة الرابعة. في صفحة داخلية خبر طريف يستحق أن يعاد ذكره: وزير الصحة وإصلاح المستشفيات يصاب بوعكة صحية في الجلفة فيُنقل على جناح السرعة الى مستشفى بباريس. عاشت الجزائر عزيزة كريمة مصرّة على اعتذار فرنسا. اسمعوا أقوالي ولا تتبعوا أفعالي... الاسطبلات الاستشفائية الجامعية متروكة ل»شعيب الخديم ولد الخديم... الخمّاس ابن الخمّاس«، ومستشفيات باريس محجوزة لوزير إصلاح مستشفيات الجزائر. لا أعرف هل عاد سعادته سالماً معافى. إذا كان مايزال في باريس، فأنصح نزلاء الاسطبلات الاستشفائية الجامعية أن يهبّوا جميعا الى المطار يوم عودته لتهنئته بالسلامة ثم يعودوا الى أسرّتهم لاستكمال رحلة العلاج المظفرة. جلستْ الى جانبي عجوز ربما تجاوزت السبعين يرعاها ولد (أو حفيد) دون العشرين، يبدو أنه يدرك جيدا معنى بِرّ الوالدين. ظلت تصلّي جلوسا دون انقطاع حتى خيّل إليّ اننا متجهون صوب الآخرة لا نحو عائلاتنا. في فترة استراحة بادرتها لأكسر الصمت والحصار المفروض عليّ بسبب جلوسي في مقعد النافذة: الله يقبل يا مّا الحاجّة... ادعيلنا معك. ثم زدت: أنتِ عايشة في لندن ولاَّ تحويسة؟ قالت بأمازيغية تسللت إليها كلمات دارجة: أنا وليدي عايش في انغليز... عندو ثلاثين سنة وهو عايش ثمة. وأضافت: شفت واش دارو في بلادنا. قلت: من هم؟ وفي قرارة نفسي أقاوم رغبة في القول إن هناك من »دار« هذا الصباح وهناك من »يديروا« منذ 1962. قالت »ضربوا دار الشّْرَع وتع لونيي.. هذيك تع المريكان«. فهمت أن سفارة أمريكا أو ربما مبنى الأمم المتحدة. كانت أجواء عيد، رضّع يملأون الطائرة صراخا وأطفال ملأوها ضجيجا وحوّلوها أشبه بحافلة مسافرين متجهة نحو براقي. في صف الكراسي خلفنا شابان لم أكن أسمع إلا صوتيهما في حديث عن »ضربو الدزاير«. كلامهما كان عن حصيلة القتلى. قال أحدهما »قالوا زوج في ألجيرين تي.في«، فقاطعه الآخر مسرعا: تامنهم أنت هذوك؟ واسترسل »الجزيرة قالوا أكثر«. وصلنا بسلام. حزن واكتئاب وظلام حول المطار. أسكن على بعد أقل من عشرة كيلومترات عن المطار، لكن هذه الميزة أصبحت »شيعة بلا شبعة«، لأن قطع هذه المسافة أصبح يحتاج الى ساعة من الزمن وربما أكثر. في اليوم الموالي كان استفتاء »الجزيرة«. هو فشل مهني موصوف سرعان ما اختفى أمام عبقرية جمال ولد عباس (الذي لم يذهب بعد للعلاج في باريس) وتلفزيون حكومته و»مجتمعها المدني«. دعا هؤلاء جميعا إلى مقاطعة »الجزيرة«، فما من بيت دخلته (وكانت أيام عيد وتبادل زيارات) ولم أجد أصحابه يشاهدون »الجزيرة«. أيقنت أن هذه الحكومة وولد عباس وردود الفعل »العفوية« على الاستفتاء أصابت فعلا الهدف. ولما شاهدتُ مدير التلفزيون يلقي بثقله في الموضوع قلت في قرارة نفسي: آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه! الجزائر تخوض حربا خاسرة ضد »الجزيرة«. وعلى أي حال، الانتصارات لا تأتي على يد ولد عباس. ولا تأتي على يد مدير التلفزيون. ولا تحققها ردود الفعل »العفوية«. إن لها فنونها ورجالها. عدت بعد العيد. أصدقاء وزملاء كثيرون يطرحون نفس السؤال: كيف وجدت الجزائر؟ عندي أجوبة لهم، لكن لا جواب لدَي لك أيها القارئ.. في فمي ماء. كل عام والجزائر بخير.