وضع الخطاب الذي ألقاه عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة أدائه اليمين الدستورية رئيسا للبلاد لعهدة ثالثة المعالم الكبرى لبرنامج العمل خلال الخمسة سنوات المقبلة، فكان عبارة عن مناسبة لتجديد الوفاء لكل التعهدات التي قطعها أمام المواطنين خلال الحملة الانتخابية، وتأكيد إصراره على تجسيد الطموحات المعبر عنها من خلال الدعم غير المسبوق الذي عكسته نتائج الرئاسيات الأخيرة. فرغم طابعه البروتوكولي إلا أن الخطاب المقتضب الذي ألقاه الرئيس بوتفليقة بقصر الأمم بنادي الصنوبر، قد تضمن إشارات قوية إلى تلك الإرادة لمواجهة مختلف التحديات، سواء على المستوى الأمني أو الاجتماعي والاقتصادي، فكان الخطاب عبارة عن تذكير للمواطنين الذين صوتوا لصالح الرئيس بوتفليقة بذلك البرنامج الطموح الذي حمله والقائم على الاستمرارية من خلال مواصلة المجهود الهادف إلى تحقيق الأمن والاستقرار وضمان تنفيذ الورشات الكبرى خاصة في مجال التنمية. لقد استهل بوتفليقة خطابه بالحديث عن المصالحة الوطنية ولم يكن ذلك مجرد صدفة، بل يعكس تلك الرغبة على إبقاء هذا الخيار في صدارة أولويات البرنامج الرئاسي خلال العهدة الجديدة، وهو ما جعل رئيس الجمهورية يؤكد على التزامه بمواصلة مسعى المصالحة الوطنية، بل وتعميق هذا المسعى أيضا من منطلق النجاحات التي حققها منذ الشروع في تنفيذه، والمقصود بتعميق المصالحة هنا هو بلا شك اتخاذ تدابير جديدة لتفعيل هذا الخيار الحساس والاستراتيجي انطلاقا مما جاء على لسان الرئيس طيلة أيام الحملة الانتخابية. تفعيل المصالحة الوطنية يعتبر بمثابة حجر الزاوية الذي يبنى عليه البرنامج الرئاسي في مفاصله الأخرى، فهناك ما يسميه البعض بقراءة جديدة لهذا المسعى من خلال اتخاذ تدابير تسمح بتوسيع المصالحة إلى فئات أخرى أهملتها نصوص ميثاق السلم في صيغتها الصادرة في سنة 2005، وربما الذهاب إلى عفو شامل إن أمكن، وهذا استنادا إلى ما جاء على لسان بوتفليقة نفسه في خطاب الحملة وإن كان قد اشترط اللجوء إلى العفو الشامل بضرورة أن يتخلى من تبقى من المسلحين عن أسلحتهم ويسلموا أنفسهم طواعية للسلطات، علما أن بوتفليقة كان قد أكد أنه لن يصدر أي إجراءات جديدة من دون المرور عن الاستفتاء الشعبي، فالرجل يؤمن بأن التأشيرة الشعبية هي الضامن لنجاح المسار السلمي ووقوفه في وجه المعوقات الداخلية أو الخارجية. بوتفليقة يدرك جيدا بأن المصالحة الوطنية لا تزال تحظى باهتمام السواد الأعظم من الجزائريين الذين واجهوا الإرهاب ويعرفون جيدا ذلك الفارق الكبير بين جزائر التسعينيات وجزائر الوئام والمصالحة، ويدرك أيضا بأن النسبة الكبيرة من الذين صوتوا على برنامج الاستمرارية إنما فعلوا ذلك من منطلق قناعتهم بأهمية ما أنجز على طريق التنمية، لكن وبشكل أكبر لقناعتهم بأهمية ما تحقق على طريق السلم واستعادة الأمن ومعالجة مخلفات المأساة الوطنية بطريقة هادئة وجدية وعقلانية. وما من شك أن عودة الرئيس في خطابه إلى القضايا الكبرى التي تشغل بال السواد الأعظم من الجزائريين ينطلق أيضا من ذلك اليقين بأن الفئات الضعيفة هي في أمس الحاجة إلى رئيس قوي مسلح ببرنامج قادر على تحقيق طموحاته الكثيرة، وهو ما جعل بوتفليقة يجدد التأكيد على ضرورة العمل من أجل تحسن المستوى المعيشي للمواطنين والاهتمام بالسكن والماء والطاقة وكل القضايا الأخرى المرتبطة بالحياة اليومية للمواطن. وبطبيعة الحال لم يهمل الرئيس في خطابه مسائل أخرى لا تقل أهمية تتعلق بتطوير الاقتصاد وتخليصه من التبعية للريع البترولي والتمكين للاستثمار لتحقيق المشاريع المسطرة، مع تجديد التعهد بتوفير ثلاثة ملايين منصب شغل، وهذا التحدي موجه خصيصا لفئة الشباب التي خصت بمكانة متميزة هذه المرة في خطاب الحملة وفي البرنامج الرئاسي. ويبدو التأكيد على ضرورة الإسراع بإصلاح هياكل الدولة ومهامها، والتي شكلت إحدى أهم ورشات الإصلاح منذ العهدة الرئاسية الأولى، كإشارة واضحة على ضرورة صدور قانوني البلدية والولاية على اعتبار أن هاذين المشروعين قد تأخرا رغم أهميتها في تدعيم نظام اللامركزية الذي تحدث عنه رئيس الجمهورية، وربما قصد من ذلك أيضا مسألة تعديل الدستور باعتباره إحدى المسائل المبرمجة خلال العهدة الجديدة استكمالا للتعديل الذي قام به الرئيس في نوفمبر الفارط. لقد تحدث بوتفليقة أيضا عن مواصلة إصلاح قطاع العدالة الذي تحول إلى مسار طويل شرع فيه منذ سنوات ولا يزال متواصل، وعن مكافحة الرشوة والفساد والمحسوبية، وخص قطاع الإعلام هذه المرة بإشارة خاصة لما أكد على استقلالية الصحافة، وهو رد صريح على تلك الانتقادات التي أثارت مخاوف البعض حول مستقبل قطاع الإعلام وحرية الصحافة خلال العهدة الرئاسية الجديدة. أهمية خطاب الرئيس بوتفليقة تكن في تلك الإجابة الضمنية عن التساؤلات الكثيرة التي طرحت والمتعلقة بالقراءة الصحيحة لنسبة المشاركة غير المسبوقة والالتفاف الشعبي الذي حظي به بوتفليقة في الرئاسيات الأخيرة والتي منحته أغلبية ساحقة أمام منافسيه، ومن هذا المنظور يبدو الخطاب، فضلا عن تلك الإرادة في تحدي الأزمات التي تواجهها البلاد، والقدرة على تقديم الحلول المناسبة لها، كتعهد جديد لتنفيذ كل ما التزم به خلال الحملة الانتخابية وتحقيق الشعار الذي رفع والمتمثل في تحقيق الأمن ومواصلة مسار التنمية لبناء جزائر قوية.