قضيت أياما من الأسبوع الماضي في العاصمة القطرية بدعوة من منتدى الدوحة، وكانت فرصة لأتعرف، من خلال نافذة السيارة أساسا، على النهضة العمرانية الكبيرة التي عرفتها العاصمة في أقل من عامين مقارنة بما كنت رأيته في زيارتي السابقة عندما حملتُ لقطر الدعوة للمشاركة في احتفالية الجزائر، عاصمة الثقافة العربية، وهي نهضة أكثر من هائلة مقارنة بما عرفته عند زيارتي الأولى لشبه الجزيرة في السبعينيات. وأسجل لقطر بأنها كانت في طليعة من استجابوا بحرارة للدعوة وفي مقدمة من وضعوا ثقلهم لإنجاح تظاهرة 2007. ولعلها فرصة لأعيد ما سبق أن قلته من أن الدولة الكبيرة ليست حجما سكانيا ضخما أو مساحة جغرافية مترامية الأطراف، بل هو دور متميز تقوم به دولة ما، في إطار متزن يعرف حدود حركته وأبعاد قدراته، ولخدمة هدف يستجيب لحاجة الأمة ويعبر عن رغباتها، ويتسم بتواضع يكفل ضمان الاستجابة وحسن التجاوب. واستطاعت قطر، في منتدى الشرق الأوسط، الذي كان نظيرا عربيا لمنتدى "دافوس"، أن تجمع نحو 600 مشارك يمثلون أكثر من سبعين دولة، كان من بينهم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك ورئيس البيرو السابق ورئيس وزراء فنلندا ورئيس وزراء فرنسا الأسبق ألان جوبيه ورئيس منتدى دافوس ودوغلاس هيرد وزير الخارجية البريطاني السابق وعددا هاما من الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين والباكستانيين والهنود وجنسيات أخرى من بينهم عدد من الجزائريين وقلة من المغاربة والتونسيين، بالإضافة إلى عدد من أبناء الخليج المرموقين. وكان الشيئ الغريب الذي لاحظته هو أن الغياب المصري لم يُقابل بدهشة كبيرة، بل ولم يُحسّ أحد بهذا الغياب، وعرفت أنه، برغم غضب القاهرة من قطر وتزعمها عملية مقاطعة قمة الدوحة فإن المصريين العاملين هنا لم يتعرضوا لأي استفزاز أو تحامل أو حتى نفور مؤدب، وهي نقطة تسجل لصالح الدولة التي كانت أول دولة عربية تطرح خلافها مع البحرين، وباتفاق معها، أمام محكمة العدل الدولية، وترضى بحكمها. أما الوجود الإيراني فكان أمرا غريبا أنه لم يكن، فيما أحسست، وجودا ملموسا. ولعلي ألاحظ هنا أن الشرق الأوسط، كما تشير له الخريطة الموجودة على جدار منصة المنتدى، يمتد من المغرب إلى إيران، ويُستبعد منه كل من الصحراء الغربية وموريطانيا في المغرب العربي والسودان والصومال في المشرق العربي، وأفغانستان وما وراءها في الشرق الأقصى، وهذا يجسد النظرة الأمريكية لمفهوم تعبير الشرق الأوسط. وأعترف بأن أول ما أدهشني كان التنظيم الأمني، فمن المطار إلى فندق "موفنبك" حيث كنت أنزل إلى فندق "شيراتون" حيث عُقد المنتدى لم أشاهد أكثر من أربعة أو خمسة من رجال الشرطة. وبرغم مستوى المشاركين المرتفع، وعلى رأسهم الشيخ حمد أمير البلاد والسيدة حرمه، فإن دخول المقر كان عاديا جدا لكل من يحمل شارة المنتدى، حيث كانت السيارة تعبر مدخل الفندق الخارجي، بدون أن يطلب أحد من السائق فتح الحقيبة الخلفية ليلقى عليها نظرة بلهاء بينما يتفحص زميله وجه الراكب أو الركاب بذكاء واضح الافتعال. وفي نفس الإطار أتذكر أننا، بعد العشاء الرسمي، خرجنا من القاعة الكبرى لنجد الأمير والشيخة موزة في الممر يدردشان مع عدد من الحضور، ولم يكن هناك أي تدافع حولهما، ولم يكن هناك عمالقة تبدو أسلحتهم من تحت ثيابهم، ينظرون للجميع نظرات الشك والتوجس التي تتصور أن كل مدعوّ هو مُجرم إلى أن يثبت العكس، وهكذا وجدت نفسي أمام الأمير الذي حياني بحرارة مسجلا تقديره للجزائر ولرئيسها ولشعبها، وصافحتني السيدة قرينته بمودة كريمة وسمعت منها تحية رقيقة موجهة لبلادي. ولم أجد في الشوارع المحيطة بالفندق أي "باراجات"، ولم أشاهد شرطيا يقف في وسط الطريق كأنه عمود إضاءة عامة مزروع فيها، كما يحدث في بعض الدول الإفريقية التي لا أسميها لأنني أعرف أن رجل الشرطة يطبق التعليمات بأمانة مشكورة. ولا يعني هذا أنه لم تكن هناك في قطر حماية أمنية للضيوف، ولكن هذه كانت تعتمد المبدأ الرئيس في فعالية الحماية، وهو ألا يراها أحد وألا يُحسّ بها أحد، وأن تبتعد تماما عن الأسلوب الأمريكي الذي يختطف البصر (Tape à l'œil) ولم تثبت فعاليته دائما. وكانت التشريفات القطرية، وكثير من عناصرها من فتيات قطر، قمة في الأدب والظرف والوداعة والفعالية، وقيل لي هناك أن الشيخة موزة (ومعناها الجوهرة) تحرص بنفسها على متابعة نشاط المرأة وعلى وجودها في مفاصل الجهاز الإداري للدولة. وأصل إلى محتوى المنتدى لأسجل بأن كلمة الافتتاح التي ألقاها أمير البلاد كانت من نوع "ما قلّ ودلّ"، وكان من أروع ما جاء فيها قوله بأن ما يعرفه العالم من اختلالات اقتصادية ومالية يجب ألا نستعمل في التعبير عنه كلمات مثل "التسونامي" والأعاصير، لأن هذه، كما قال، كوارث طبيعية لا يملك لها الإنسان ردا ولا يستطيع معها استباقا، أما ما يعرفه العالم اليوم فهو كوارث تسبب فيها البشر ويجب أن يكون التعامل معها على هذا الأساس، وعلينا بالتالي ألا نتهرب من مسؤوليتنا عنها ومن واجبنا في مواجهتها. أما كلمة الرئيس الفرنسي الأسبق فقد كانت باهتة وأصابت الجميع بخيبة أمل كبيرة، إذ بدت وكأنها كلمة أعدت لتلقى في التسعينيات، فقد عاد شيراك إلى الحديث عن الإرهاب ومعطياته ومتطلبات مواجهته، وكان أسوأ ما فيها إشارته إلى المؤسسة التي أقامها بما فهم أنه يطمع أن تلقى دعما ماليا من الدولة العربية المضيفة. وقام بإدارة الجلسات عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية معظمهم من الأمريكيين، وكان أسوأهم البريطاني "ريتشارد جيزبيرت"، بتعاليه وانتقائيته في اختيار المتدخلين للتعليق على المداخلات، مما اضطرنا، الأخ سعيد مقدم وأنا، إلى تأنيبه بخشونة في نهاية الجلسة، وأضطر إلى الفرار من القاعة، ولم نره بعد ذلك، بينما كان من أحسن منظمي الجلسات البروفيسور "ستيفن سبيغل"، مدير مركز تنمية الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا. وكان من التدخلات المتميزة التي تابعتها، وأنا لم أستطع بالطبع متابعة كل شيئ، استعراضُ رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق ألان جوبيه، والذي استكمله في حوار مع الجزيرة، وتدخلُ السيد وضاح خنفر مدير قناة الجزيرة والكلمة الختامية للمنتدى التي ألقاها الشيخ محمد بن عبد الله الرميحي، مساعد وزير الخارجية القطري ومنظم الندوة. وأبلغني الدكتور إسماعيل دبش عن تدخل غير موفق لوزير مغربي كرر نفس ما قام به في لقاء طنجة قبل الأخير، وكان من حسن حظه أنني كنت في جلسة أخرى. ولم يكن الوجود الجزائري كما كنت أحب له أن يكون، برغم أن من بين المشاركين رئيسا حكومة سابقان، وعددٌ من أساتذة الجامعة والبرلمانيين ورجال الأعمال، وهو ما لا يُقارن بالوجود الأمريكي الذي كان وجودا منظما منسقا ومتكاملا ومؤثرا و.. ملحوظا. وبغض النظر عمّا إذا كان المتحدث الأمريكي جزءا من السلطة أو مسؤولا في وضعية التقاعد أو جنرالا سابقا أو صحافيا ممارسا أو أستاذا جامعيا فإن اللهجة كانت واحدة تسير في نهج واضح محدد، وكان من أبرز ما يشير إلى هذا تدخل السيد "دانيال كيرتز" مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وسفير واشنطون السابق في كل من مصر وإسرائيل، والذي لخص نظرة واشنطن للمعطيات السياسية في الشرق الأوسط. وكان واضحا أن مجيء المجوعة الأمريكية لم يكن عفويا أو مرتجلا أو مرتبطا بنظرة شخصية، وعرفت بأنه تم تنظيم لقاءات بينها وبين مسؤولين أمريكيين خلال الشهور، نعم .. الشهور، السابقة، وتلقى كل المشاركين الأمريكيين على اختلاف مستوياتهم وثيقة معلوماتية تشرح معطيات الأوضاع وما تريده السلطة الأمريكية. وتذكرت هنا ما قلته لزميل واسع الاطلاع والصلات بأنني بادرت بتقديم الشكر لمنظم المنتدى على حسن الإدارة وطيب الاستقبال نيابة عن الوفد الجزائري، فقال لي ببساطة ضاحكة : نحن لم نكن وفدا، كنا مجرد مشاركين. وكان على حق، حيث أن بعضنا فوجئ بوجود البعض الآخر في الطائرة أو أمامهم على مائدة الغداء، وهذه بالطبع مسؤولية لجنة حقوق الإنسان في بوركينا فاقو. وكانت إسرائيل موجودة بشكل مباشر من خلال "جاك روزن"، رئيس المجلس اليهودي العالمي، وبشكل غير مباشر وملموس من خلال تدخل معظم الأمريكيين وغالبية الغربيين، وبعض الحضور، ومن هؤلاء من تدخل لرفض ما قاله أحد المتحدثين عن حدود 1967، مشيرا إلى أن اجترار التاريخ لم يعد له معنى، واضطرني للتدخل لكي أقول له بأن الإشارة إلى حدود 1967 هي جزء من قرار 242، وهو واحد من أكثر من 65 قرارا أمميا لم تنفذها إسرائيل، وهي الدولة الوحيدة التي أنشأت بقرار أممي. وبالمناسبة، كان من بين ما قلته تعليقا على حديث "وضاح خنفر" بأن بروز الدور التركي وتألقه يعني أن تركيا تحرص على تكامل الفكر القومي مع البعد الديني، وهو ما لم يفهمه الوطن العربي حتى اليوم، وما زلنا فريسة للشجار السوقي بين القومية والدين، ولبقايا "لورنس" والليبيرالية الخرقاء وفتاوى الفتنة وإفرازات علماء السلطة. وما زال بعضنا يتجاهل أن اللغة الوطنية هي قاعدة الفكر القومي، ويجعلنا، بالشروخ اللغوية، عالة على الحضارة وتجمعا من لقطاء التاريخ. ويبقى أن أشير إلى أن قائد الطائرة القطرية التي حملتنا إلى الجزائر اعتذر عن تأخر وصول الطائرة نحو عشرة دقائق، وتخيات هاتفا يهمس بأننا قد نسمع يوما اعتذارا من قائد الطائرة في شركتنا الوطنية... يعتذر عن وصول الطائرة في الموعد المحدد. وأجدد شكري لقطر، التي تعطي مفهوما متميزا لمعنى الدولة ولممارسات الدولة.