كان يترك شعره يطول لشهور متتالية بدون أن يزور الحلاق ثم يخرج إلى شوارع و أزقة ''شارلفيل'' يحاكي رجالات الأدب والفنانين وهو في سن السابعة عشر، كان أهل المدينة يصفونه بأقبح الصفات وأسفلها: فمن شاب برناسي إلى مستهتر خشن الطباع·· غريب الميول، بوهيمي، متسكع، ليس له من اهتمام سوى حرث شوراع المدينة الصغيرة طولا و عرضا بعينان ثاقبتان، لكنه مع ذلك يظل في إيهاب إنسان شاعر حسّاس· ذلك التسكع العشوائي في يوميات ريمبو إنطلى على دواخله، أو ربما العكس، فقد كان يعيش تسكعا داخليا، لما تروح الأفكار تدور في رأسه، تتجول، تتصادم بهبل وطلاقة، كان ''أكثر ما يهوى، الصحارى في اتساعها، البساتين المحروقة، الدكاكين الذاوية والعلب الفاترة تتلقى الدروس تسكعه بنتانة بينما يمشي و عيناه مغمضتين، يروح يقدم قرص الشمس المتوهج إلى النار''(أغنية البرج العالي)· إن القارئ لشعر ريمبو يجده يفتقد إلى صلابة الحدود وحدود الفكرة أيضا، لأنه غالبا ما يأتي في صور تداعيات لا نطاق لها في الشعور متدافعة وعنيفة نابعة من عوالم لا شعورية هي أقرب للفانتازيا، لا يمكن لأي كان أن يتقبلها بنزقها الريمبوي إلى حد اعتبارها هذيانات لا طائل منها لما نسمعه في قصيدته ''أغنية البرج العالي'' يناشد أحد الجنرالات بفتور واضح قائلا له:''أيها الجنرال،أرجو أن تجد على أسوار قلعتك المهدمة، مدفعا عتيقا لتقصف به واجهات الحوانيت الملمعة للتو ! قاعات الشراب·· بأحجار الأرض العطشى، اعمل على أن تنال المدينة كلها من الغبار·· إكسر الميازيب واملئ حجرات السيدات بغبار الصخور الملتهبة''· و نفس الوصف نجده في قصيدة ''فكرة جديدة للصباح'' حيث يذهب بخياله الجامح و كلماته المتوهجة، مع أنه يصف في الواقع و هو يلوك كلماته العشبية لما ''يمضي وقبضتاه في جيبيه المثقوبتين، حالما يقرض أثناء تجواله قوافي''قصيدة نزوة''· ففي ''فكرة جديدة للصباح'' يحدث تيهان مفاجئ في قلب القصيدة بينما يصف أولئك العمال الرائعين على حد تعبيره و هم يهيئون الصفائح لتجديد مدينتهم، و إذ ذاك يصيح بهم قائلا:''يا رعايا ملك بابل، فينوس رجائي أن تخرجي من لب اللوز للحظات لتترصع الروح على تاجك المحصن''· لا شيء مجاني في هذه الكلمات رغم تداعياتها العفوية، فهي تحسسنا برابطة زمنية تطوقنا في زخم لوحات و مشاهد ملونة تفرز توهجات أصلية تنبع من ذات مبدعة· كلمات خطها ريمبو وهو في ربيع عطائه خلال سنة 2781 التي تعتبر مخرجا حاسما في أواخر مرحلة مراهقته، وهو يدخل غمار تجربة شعرية أخرى يتمشى الهوينة رفقة صديق العمر الشاعر ''فرلين'' هائما على وجهه يصيح: ''اليّ أيها التاريخ الذي يحمل شيئا من جنوني'' ثم يغوص في متاهة البوهيمية التي لا حدود لها مثل القصيدة التي كان يكتب·