نسجت كل من بولندا وسورياوروسيا، سهرة أول أمس، شبكة من المشاعر العميقة والجمال العالمي نغمةً بنغمة، تحت أضواء خافتة وسكون الجمهور المشدوه، نحو الوصلات الموسيقية، وذلك تواصلا لفعاليات الدورة الرابعة عشرة للمهرجان الثقافي الدولي للموسيقى السيمفونية. دخل العازف البولندي فويتشيك فاليتشيك إلى المنصة وحيداً أمام بيانو شتاينواي أسود، جلس ووضع يديه على المفاتيح، وانطلقت السحرية من أولى نغمات "رومانسيّة كونشرتو البيانو رقم 1" لشوبان، حبس الجمهور أنفاسه. البرنامج المختار كان بمثابة تحية مؤثرة للتقاليد الرومانسية البولندية. إلى جانب شوبان، بعث فاليتشيك من جديد أعمال بادريفسكي، كيلار ومونيوشكو، وكأنها صفحات تاريخ يُقلبها بعذوبة. في الفالس، يتحوّل البيانو إلى ريشة، وفي "باكانال"، يصير لهباً. بأسلوبه الراقي، يقدّم فاليتشيك أداءً يتجاوز التقنية، ليصل إلى عمق الشعور الإنساني. ارتفع الستار مجدداً على مشهد مختلف. على الخشبة، اعتلى أوركسترا شباب سوريا السيمفوني المنصة، بقيادة المايسترو ميساك باغبوداريان، مقدّمين رحلة جريئة في روائع الرصيد الأوبرالي الأوروبي، مع لمسة شرقية خفيفة. بدأ البرنامج بثنائي "باباجينو-باباجينا" من أوبرا "الناي السحري" لموزارت، ما أطلق أولى ابتسامات السهرة. ثم تعمّق الأداء في صفحات الأوبرا الإيطالية، حيث أبدع الباريتون "مايكل تادروس" في أداء "لاغو آل فاكتوتوم" من "حلاق إشبيلية"، وسط تصفيقات صاخبة من الجمهور. فنان تمثيلي بامتياز، حرّك أوبرا الجزائر كما لو كانت مسرحا. ثم دخلت المسرح السوبرانو سُمية حلاق، والتي تمتلك شهرة واسعة في العالم العربي، فأبهرت القاعة بأغنية "أو ميو بابّينو كارو"، بصوتها الصافي، لامست الأعالي، ثم تابعت بأغنيتي "كاند مي إن فو" و«أون بيل دي فيدريمو" لبوتشيني، بدعم أوركسترالي محكم. وكانت لحظة الذروة مع "الباركارول" لأوفنباخ، التي غنتها في دويتو ساحر جعل الزمن يتوقف. واختتم المايسترو السوري العرض بمقتطفات من "كارمن"، فاستحضرت "الهابانيرا" نفحات الأندلس في حجارة الجزائر البيضاء. الجمهور، مأخوذ، وقف طويلاً، مصفقاً لفرقة تثبت عودتها القوية رغم ما تمرّ به سوريا من تحديات. في الختام، صعد إلى المنصة أوركسترا موسكو لغرفة الشباب، محملين بأنفاس الشمال الروسي. بقيادة الكاريزمي "فاليري فورونا"، مثّل هؤلاء الشبان روح الموسيقى الروسية، الممتزجة بالصرامة والحماسة والجرأة. افتتح العرض ب«الباراد" لجاك إيبرت، قطعة ساخرة ومرحة، وكأنّ كلّ آلة تحكي حكايتها. ثم جاءت كلاسيكيات روسيا، على غرار "لوحات من معرض"، و«تريبّاك"، و«الرقصة النابولية"، بتفسير عصريّ مدهش. وكان نجوم السهرة العازفين المنفردين "ماكسيم سافرن" أبدع على البوق، و«يوليا بيهوفيتس" ألهبت القاعة بعزفها ل«تحليق النحلة"، فيما قدّمت "سفيتلانا بيزوتوسنايا" رقصة روسية شديدة الرهافة كأنها بلّور نقي. وفي النهاية، تعالت أصوات المغنيين الباريتون "ألكسندر موراشوف" في آريا "لينسكي"، بصوته العميق المليء بالشجن، والسوبرانو "مارينا كونوفالوفا" التي أبهرت الجمهور بأغنيتي "إيل باتشيو" و"برينديسي".