هذه المرة يصدق ما جاء بالرواية، إذ تتحقق فكرة الأخ الأكبر الذي صار رمزا للرقابة منذ أن اشتهر عمل أورويل، رمزا لسلطة علوية خفية تحدد مصائر الخلق والعالم، فتجسدت إذاك للقراء وهم مكبون على جهاز ''كندل'' (تعني في الانجليزية أشعل / اشتعل) يقرأون روايتي ''''1984 و''مزرعة الحيوان'' لأرويل شرطة الفكر تصادر على نسخهم الإلكترونية هذه• قبل أن يعرف هؤلاء ما الذي حدث بالضبط، وقبل أن أتم ما حدث في نسخة 2009 من هذه الرواية لنعود إلى مهرجان كان الأخير• و قد لاحظت أن التغطيات العربية للحدث شملت كل شيء؛ الأفلام، النجوم، الموضة، المال، الأرقام، الفضائح، بينما أغفلت حدثا هاما حققه كاتب عالمي من طراز باولو كويلو، الذي وقع بالمناسبة روايته الجديدة ''وحدة المنتصر'' واختار لها هذه المرة المهرجان نفسه موضوعا لها؛ كان الآخر• كان المدينة الصغيرة والخاصة جدا، التي تتحول أثناء المهرجان إلى سوق ميتروبولية، ميدان حرب فيها المنتصر والمنهزم• مؤسسة صناعية لا تنتج شيئا ولكن تدر الأرباح الطائلة• فنقرأ في الفصل الأول من هذه الرواية ''حفلات الغالا المنظمة كل ليلة بعد مآدب العشاء المهمة أكثر طلبا من أي عرض أول لفيلم بالمهرجان'' والكاتب في ''وحدة المنتصر'' يعيد إلى الواجهة بعمله الجديد ثنائية الأدب والسينما، لكن من زاوية أخرى؛ كيف يتحول فيها الإنسان إلى عنصر في صناعة ''الشو'' و''الغلامور'' التي ترسم مصيره• وكل ذلك طبعا على خلفية الانطباع أو الحقيقة التي ما فتئت ترسخ سنة بعد سنة ودورة بعد أخرى، تدين هذا المهرجان و قد فقد بريقه السينمائي الفني وتفرغ لمشتقاتهما، فيقول صديق البطل '' انس الأفلام، إن كان مهرجان موضة''• وربما هذا ما أثار كاتبا فرنسيا هو جيروم غارسان، وجعله يتخلى عن كل معايير النقد ويخرق أصول اللباقة والتحاور قائلا ''تسألونني لماذا أجد الوقت لقراءة كتاب لباولو كويلو؟ لأن أحداثه تجري بمهرجان كان''• ومعنى هذا أن غارسان لا يقرأ هذا الكاتب لولا أنه كتب عن ''شيء فرنسي''، إذ يقول في سياق ذلك: ''إنه ما انفك طوال خمسة عشر سنة يعاقبنا بالموعظة'' فيصفه ب ''إنجيلي ذو بلاغة وكلام معسول''• ويبدو أن غارسان قرأه بشوفينية فرنسي يريد أن يطمئن على صورته في عيون الآخرين، وقد ساءه أن يصور كويلو كان على أنه ''واجهة عالم في ضياع • حيث القيم مهانة• الكبار يسحقون الضعفاء، النساء تقتلن أنفسهن بالبوتوكس والسيلكون، من أجل بابل جديدة، سدوم معاصرة''• ويذكرنا غارسان أن هذا الكان هو نفسه كان الذي لجأ إليه كويلو ''الملياردير البرازيلي، صاحب مبيعات المائة مليون نسخة، ''ليحجز جناحا ببلاس فخم في الكروازيت كي يوقع كتابه هذا ''وحدة المنتصر''• و كويلو في كتابه الأخير هذا يواصل وفاءه للأسلوب الجبراني، عالم تراجيدي تغطيه سماء من الأمل، وإنسان تائه بين دروب مليئة باللافتات، لا يقرأها إلا حينما يخطئ • و بمناسبة إشارتي سالفا لثنائية الأدب والسينما، أسجل طفو حكاية الكاتب و المخرج الايطالي الأشهر بيير باولو بازوليني، بعد 34 سنة على وفاته ( 2 نوفمبر 1975 )، وليس بمقدور أحد أن يجعلها تطفو إلا بينو بيلوتسي أو بينو لارانا، أي بينو الضفدعة ( سمي كذلك لفمه وضحكته الخاصة)• فعدا الكتب التي تصدر من حين إلى آخر تذكرنا به أو تشير إلى نهايته التراجيدية (و منها على وجه الخصوص كتاب ترجم إلى العربية مؤخرا ''زريبة الخنازير'' الذي يضم مجموعة أشعار الكاتب المخرج) لم يكن ثمة ما يمكنه أن يجعلها حدثا إن لم تكن تصريحات يدلي بها قاتله بينو بيلوتسي الذي قال إن مقتل المخرج كان فعلا اغتيالا سياسيا، و قاتلوه مجموعة مكونة من خمسة أفراد، تعرف من بينهم إلى الأخوين بورسيلينو• ويذكر أن هؤلاء أوسعوا بازوليني ضربا،كمن يلقنوه درسا لأنه تطاول على شخصية محترمة، في حين اثنوه هو عن إتيان أي حركة وقد حاول أن يتدخل إشفاقا على الرجل• من الممكن جدا أن تعتبر هذه التصريحات مجرد أقاويل رجل اشتاق إلى الأضواء بعد أن انتهى إلى أن يكون عامل تنظيف، و بعد أن حوكم في سن السابعة عشر لا غير، وقضى في السجن عقوبة تسع سنوات وسبعة أشهر• لكن بالنظر إلى ملابسات القضية التي أرجعت أسبابها حينذاك إلى مبادلات جنسية بين الطرفين، لم يزل يشوبها الكثير من الغموض• و تعتبر مثل هذه التصريحات إضاءات أو قرائن قد تصدق على نحو من الأنحاء، سيما أن الجريمة وصفت من قبل أطراف عديدة في وقت من الأوقات بالجريمة السياسية لها صلة باغتيال السياسي الايطالي ماتيي • والأرشيف يحتفظ بتصريحات بازوليني الأخيرة، أهمها إشارته إلى امتلاكه لقائمة اسمية تفضح أصحابها ؛ الوجهاء المتورطون في قضايا فساد كبيرة، و كذا إعلانه عن رواية كان بصدد كتابتها عنوانها ''بترول'' نشرت بعد وفاته و قد اختفت حسبما قيل فصول منها• وقد سئل بينو قاتل بازوليني: لماذا هذا الاعتراف الآن؟ فرد لأنهم الآن ماتوا جميعا• وأحصاهم خمسة هم، الأخوان بورسيلينو، وهما بتعبيره صقليان فاشيان من المجموعة التي اعتدت على بازوليني، و والداه اللذان كانا باستمرار مهددين إن هو اعترف بشيء، ومحاميه الذي قال عنه متورط بصلاته مع الفاشيين، ثم مضى بينو الضفدعة و ضحكته البرمائية تشي بتصريحات أخرى لا زال يحتفظ بها لوقت لاحق• أعرج على ثنائية أخرى؛ الأدب و التاريخ•• لأرصد صدور رواية ''منطقة'' للكاتب الفرنسي ماتياس اينار، والتي تروي قصة رجل يقل قطارا من ميلان إلى روما، مثقلا بالأسرار، يحمل زادا ثمينا عليه أن يبيعه لمندوب الفاتيكان• وفي ليل السفر يزور ماضيه ليسترجع ؛ مناطق، محطات، مواقف، عبر مونولوج يمتد لحوالي 500 صفحة• ''منطقة'' هي حكاية غربية لكنها تمر بالشرق، أوروبا الشرقية، تركيا، مصر، الجزائر، مع أن الكاتب الراوي يقول في سرده ''الحياة من الممكن أن تشبه مطوية دعاية سيئة لوكالة سفر، أو موجز لتاريخ عسكري''• ربما لأن اينار لا يقوم بذلك على سبيل الإثارة أوالاستعراض• ولكن ليقف عند محطات زمكانية يسائلها و يناقشها• (كرواتيا، أرمينيا ، الجزائر••) يمكن القول هو توثيق فني، رواية تسجيلية• من ذلك حادثة مقتل رهبان تبحيرين سنة 1996 خلال اشتداد المد الإرهابي بالجزائر، وذلك بعد أن يتم إنزال البطل بما يصفه ''الجحيم الجزائري'' كمندوب أمني، أو عميل استخباري، لا يعرف كيف يسميها• هي مهنة أزمة، مهنة اضطرارية• ولكنه بالتأكيد يتقن أبجدياتها''، كيما أوثق المجزرة، وأعطيها رواية أكثر معقولية عن نظيرتها الغريبة الغامضة الواردة من مركز الجزائر''• اختار الكاتب من ''الحرب الأهلية الجزائرية'' زاوية صغيرة ''تدويلية'' ولكنها في الوقت ذاته تعطي على نحو ما نظرة كاملة وعميقة لما عاشته الجزائر طيلة المد الإرهابي خلال عقد التسعينيات من القرن العشرين، مؤكدا على مستوى آخر من جديد ترابط مصير البلدين، سيما في ظل قوانين العولمة التي تقود إلى القرية الكونية، وهي نظرة خارجية من المؤكد أنها ستكمل نظرتنا الذاتية لهذه الحقبة ''بدأت•• في عالم ذباحي أطفال•• في جنون سنوات التسعينيات ،آثار حرب قرنوسطية، بقر بطون، تقطيع وبعثرة جثث، ديار محروقة، نساء مخطوفات، قرويون مرعوبون، عصابات دموية وآلهة• آلهة في كل مكان ليضبطوا إيقاع رقصة الموت• تعلمت شيئا فشيئا أسماء المدن والقرى ؛ البليدة، المدية، واستفتحت بشكل وحشي برؤوس سبع رهبان مقطوعة• سبع ورود حمراء عيونها شبه مفتوحة، على قضية تبحيرين 21 مايو 1996 التي كانت بداية عامي الجزائريين''• و لئن كانت جائزتي ديسمبر والانتر اللتين افتكتهما رواية ''منطقة '' هذا العام قد سمحت لها باحتلال مكانة خاصة بين الأعمال الجديدة، فإن عودة مجزرة الرهبان إلى شاشة الجدل، من خلال الزعم بأنها سيناريو وضعه الجيش الجزائري، قد يسهم أيضا في ذيوعها وانتشارها• وأهم من ذلك عندي هو أن تلتفت إليها الترجمة العربية المنصرفة عادة إلى الأسماء الصديقة أوأسماء الواجهة، وذلك على اعتبار أن الرواية كتاب نموذج يرتهن لنسق العولمة، ومثال حي لحوار الحضارات والثقافات• علما أن ماتياس اينار مستشرق عارف و ضليع باللغة العربية والفارسية، يدرس العربية بجامعة برشلونة أين يقيم منذ سنوات، وزار الكثير من الدول العربية، الأمر الذي يجعل من مؤلفه الذي وصفته الصحافة الأدبية ب ''جيد التوثيق'' مثيرا للاهتمام• وبقدر ما هو موجه للغرب هو موجه إلينا كذلك• إذن لنعود الآن إلى ''..''1984 إنها حكاية غربية مائة بالمائة، ولا يمكنها أن تحدث إلا هناك• فبعد أن تفاجأ القراء باختفاء نسخهم الإلكترونية من كندل، اعتقد كثير منهم أن الأمر يتعلق بخلل لحق الجهاز الجديد الذي طرحته الشركة وقد تم تطويره من حيث الحجم والسعة والخدمات•• قبل أن يتبين أنه قرار اتخذته أمازون دوت كوم بإلغاء النسخ من أنظمتها بالموقع، وكذا من أجهزة زبائنها• وشرحت الشركة موقفها للصحافة بأنها تلقت احتجاجا من مالك حقوق الأعمال بعد أن تورطت باقتنائها من طرف آخر لا يملكها• ومع أن الشركة عملت على تعويض الزبائن المتضررين، إلا أن العناوين المثيرة والمستفزة التي أثارتها الصحافة أعادت إلى الأذهان سؤال نيكولاس كار ''هل يجعل منا غوغل أغبياء؟'' المقال الذي هز الرأي العام المعرفي قبل عام بمجلة ذي اتلانتيك الأميركية، ومس قضايا عديدة منها القراءة الالكترونية• فهل يكون ما حدث مع أمازون أحد المظاهر السلبية لعصر الرقمنة؟ و دليل يدعم الرأي الذي يتحمس له كار !؟ سيما أن أحد المتضررين، وهو طالب كان بصدد تحضير بحثه حول أورويل، قال إنه فقد مع نسخته الالكترونية الملاحظات و الحواشي التي سجلها حول الرواية•• ما يشير إلى الإجراء القاسي الذي اتخذته أمازون و الطريقة التي تذكر بمزايا الكتاب الورقي الذي لا يفقده صاحبه حتى في حال إيقاف بيعه وسحبه من السوق في مثل هذه الحالات، على أن الأمر حمل مسؤولي أمازون على أن يفكروا جديا في تحسين أدائهم و إجراء تعديلات أخرى على جهازهم كندل• أجل رب ضارة نافعة• هكذا هو الغرب تنقلب فيه الأمور بسرعة؛ رب ضارة نافعة، و رب عظيم ينحط شأنه• وفي هذا الشأن تجدر الإشارة إلى أن العظماء في الغرب يموتون رموزا، لكن لا مانع من إحيائهم بفضيحة• إذا كان بازوليني قد وجد من يزيح التراب و الوحل عن ميتته البشعة • فإن ارنست همنغواي الذي قضى منتحرا، وحسب كتاب جديد من تأليف جماعي عنوانه ''عملاء؛ عظمة وانهيار الكا جي بي في الولاياتالمتحدة الأمريكية'' فقد كان عميلا وجند العام 1941 تحت اسم حركي ''أرغو''، وذلك قبل رحلته المعروفة إلى الصين، حيث كان يلتقي موظفي الاستخبارات السوفيتية في هافانا أو لندن • في حين نفى هذا الكتاب عمالة روبرت اوبنهيمر أبو القنبلة الذرية، وقد مات موصوما بها• والكسندر فاسيليف، وهو موظف سابق بالاستخبارات السوفيتية ومن مؤلفي الكتاب، استطاع اختراق الأرشيف السري السوفيتي وسرب ألف صفحة من الملاحظات التي تؤكد هذا الأمر• بيد أنها تشير إلى كون همنغواي عميلا غير فاعل و لا مميز، ووصفته ب '' المولع بالفنون''، ما دعا جون دوغدال في الغارديان إلى أن يتساءل إن كانت التجربة السرية هذه، قد قصدها الكاتب بحثا عن مادة أدبية يستخدمها مستقبلا في كتاباته • بدوري أتساءل و القراء إذا كان ثمة في كتاباته بعد الأربعينات ما يشير إلى هذه التجربة و التي ستكون حتما أداة نقدية لها أن تساعد في قراءة جديدة لمسار هذا الكاتب الأدبي.