ما كنتُ أظنّ أن أحملَ يراعي لأخوضَ في أمورٍ، أحسبُ نفسي أنني في غنىً عنه·· ولكن ما الحيلَة؟ وأين المفرّ؟ إذا لم يكُن غير الأسنّةِ مركباً فما حيلةُ المضطر إلاّ ركوبها وقد رأيتُ أناساً قد مَرَدت ومرنت على شطط الهوَى والمكرِ، والخبثِ و التناجي، بل التصريحِ بالإثمِ والعدوانِ· فقد هالَني ما كتبهُ يوسف زيدان ·· فقد كتبَ مقالاً بعنوانِ ''ذكريات جزائرية'' في صحيفة ''المصري اليوم''· قرأتُ ما نُشِر في حينهِ، ومع ذلك أجدني تأخرتُ وابطأتُ بالردِّ· وربّ خيرٍ بطيءٍ أعمّ وأنفعُ· وأن ألذّ الشراب ما روى غليلاً· فماذا وجدتُ في ذلك المقالِ يا تُرى؟ وأيّ وصفٍ الذي يُوصَف بهِ كاتبهُ؟ فقد جاهدَ كاتبُ المقال نفسهُ في استغفالِ القارئ أسرعُ، وإشاعة مقالة السوءِ على الجزائر أمضى وأشنعُ· مع أنني لستُ مستغرباً في ذلك، وهي شنشنة نعرفها من أخزم، بل من زيدان··وهذا البيت من الشعر يصف نفسية الكاتب أحسن وصفٍ إنّ ''الغلّ'' لفي الفؤادِ وإنّما جُعلَ اللسان على الفؤادِ دليلا تحاملَ هذا ''المثقف'' على كلّ ما هو جزائري، واستعملَ كل العبارات الخصوم، ونادى على الجزائر بالهجوم· وما مِن شائنة إلاّ و وصفها بها· دأبهُ أنه شرب من الكلام السوقي ماءً حتى شرق، وأطال في السبّ حتى غرق··فقد اتهمنا ب ''الإرهاب، والبؤس، والتفاهة، وأهل غباءٍ، وأصحاب عنف داخلي، وحملة سكاكين، وأن الجزائريين جهلاء·· لولا أن مصر علّمتهم العربية، وأن لا هناك عالم واحد تفتخر به الجزائر،·· و و و و، وحتى اسم الجزائر أستهجنه''·· عجباً· ما هذا يا زيدان؟ يا صاحب ''عزازيل''؟ أراكَ قد أحدثتَ أسلوباً جديداً في الثقافة والأدب غفلَ عنه الأوائلُ· وصدق شيخ المعرة عندما قال : وإني وإن كنتُ الأخير زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل هو أسلوبُ التقيء الذي تعتبرُه أنت ثقافةً· فلبئس الثقافة إن كانت هكذا! وسحقاً للفكرِ والبيانِ إن كانا على هذهِ الشاكلةِ، وإني لأَرى ''مثقفهم'' قد استمرأ واستطبّ لذة حلاوة التعالي والكِبر فَسكر بهما حتى النشوة· ولكن لو قيس ما تفوّه به زيدانُ هذا، بما يكتبه الذين يقدّرون الكلمة، لنال وساماً من الإبداع، ولكن بتصويرٍ آخر، حين أحدث أسلوب الكاتب الذي يهرف بما لا يعرفُ، أو أسلوب حاطب ليلٍ، وبالسّباب جارف سيلٍ، وهنيئاً لك بذلك الوسام· نيشان الصفاقة والخسة أين كان ضميرك·· أيها ''الصوفي'' زوراً· فهل أنبأك ضميرك بهذا ولكَ ابتسم، ثم صفق لك بما علم· فسلامٌ على أمانة الكلمة و''مرحى'' أيها القلم· ومع ذلك، هناك بعضُ الأمور أجد نفسي لابدّ من الرد عليها، وإلقام فم هذا ''المثقف'' حجراً· الفم الذي أفرز بعض الوضاعة والحقارة· يتكلم زيدان عن الإرهاب· ما هذا؟ ومن هذا؟ الله أكبر· الله أكبر· فكل إناءٍ بما فيهِ ينضحُ· ليس من الضرور أن نقولَ: ترى في أي تربة ولد الإرهاب، ولستُ بمذكر زيدان بجنسية ''الظواهري''، إلاّ إذا كانت غير مصرية، إذ هي صفة وسيمة مصرية· صدّرها أمثاله إلى الخارج، واكتوت الجزائر منها· أما الفقر والبؤس، حتى وأنه ليس عيباً، وليتَه عاير بما هو عار· وهلاّ يقول لنا صاحب ''عزازيل'' عن الذين يحيون ويعيشون في المقابر ويزاحمون الأموات، ففي أيةِ دولةٍ هم يوجدون؟ يا هذا، إن في بلدك أناسٌ يفترشون العراء، ويلتحفون الفضاء، يبيتون يرقبون النجوم في السماء ·· فمن الأحسن ألا كلام ما دام أننا في الفقر والبؤس شرقُ· ما هذا الكِبر؟ وما هذا التعالي؟ ومن هو زيدان هذا حتى يتسامى، ويعلو؟ إنه لحزنني أن قلامةَ ظفرٍ يحسب نفسه أنه ينال من الجزائرِ وشعبها· عاش من عرف حق قدره، وبالتواضع تولى أمره· يحضرني في هذا المقامِ ما قيل عن ذلك شعراً· إذا امتلأت كف اللئيم من الغنى تمايل كبراً ثم قال: أنا أنا ولكن كريم الأصل كالغصنِ كلّما تحمل أثقالاً تمايل وانثنى ولستُ هنا أن أذكر ''مثقفهم'' أن الشمائلَ والصفات السامية التي يجبُ أن تكون في المثقف هي صفاء الفكرِ ونقاء القلبِ، تتعلّق بصاحبها، فيعرفُ مواطن الزللِ فلا يقع فيها··أمّا أن يزاحمَ المثقفَ الغوغاء بالكلامِ السوقي الهجين غير المألوف، فإنّ ذوي النفوسِ الجميلة ينكرون هذا أشد الإنكار، ثم أن يكتبَ فردٌ يدّعي الثقافة مقالاً بهذه البذاءةِ المقرفةِ والمقزّزِة متجرداً من كلّ ما هو حياء إنسانيّ، ولا ضوابط مدنية وحضارية، ولا كوابح شرعية وذوقية وجمالية··ليس بالأمر السهلِ والهينِ ·· إذ أنّ الأمرَ يحتاجُ إلى القابليةِ والقدرةِ التي يمتلكها الفرد ليمارس بها تعامله مع الآخر بكل هدوءٍ وبرودةِ أعصابٍ دون أن تصطبغ ملامح وجهه باحمرار وخجل أنسانيّ، إذا كان يعتبرُ نفسه إنسانًا مثقفاً·· تُرى في أيّةِ مكانةٍ يضع زيدان نفسه بمقاله هذا·· تساؤلٌ يجبُ عليه صاحب ''عزازيل''·· إن كانت له من الشجاعة الأدبية ليضع الأمور في نصابها· قيل··· تستطيعُ أن تخدعَ كل الناسِ بعض الوقتِ، ولكن لا تستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت· فهل سقطت ورقة التوت التي كانت يتستّر بها هذا المثقف ''وبانت سوءته للعيان؟ هذا هو دأب بعض المصريين الذين هم على شاكلةِ يوسف زيدان· لم يهضموا أن الأمر ما هو سوى مقابلةٍ رياضيّةٍ· فسقط في أيديهم أنهم يخسرون مقابلة مع الجزائر، لأنهم يظنّون أنفسهم ''كبارا''، وإنه لظن السوءِ والجهالة· رغم أن في سرائرهم يعرفون ذلك أنّ الذين غلبوهم، غلبوهم في الميدان· ولكنه التعجرف والعنجهية، وحالهم كحال ذلك الرجل العُتلٍّ فرعون هذه الأمة أبو جهل أخزاه الله ·· تقول كتبُ السيرة ''إذ يلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الأخنس بن شريق الثقفي، فيدعوهما إلى الإسلام، فيقول أبو جهل: إليكَ عني، فوالله لو أعلم أنكَ نبيّ لأتبعتك·· فينصرف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يلبثُ أبو جهل أن يكذّب نفسه بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول للأخنس: والله إني لأعلم أنه صادقٌ، ولكن تبادرنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: قاتلوا فقاتلنا، وأطعموا فأطعمنا، فلما تحاذينا وتساوت الركب، قالوا: منا نبيّ، فمن أين نأتيهم بنبيٍّ، والله لا نؤمن لنبي من بني عبد مناف أبداً··'' وأين هو أبو جهل يا زيدان؟ أما قضية العلم والعلماء، وحديث بعض المصريين، ومنهم هذا ''المثقف'' عن تعليمِ المصريين العربية للجزائريين· أقول: حصل هذا في فترة كان بعض الجزائريين في حاجة لذلك نتيجة الاستعمار ومخلّفاته، ولكن ليسوا المصريين هم مَن علموا أهل الجزائر فقط، بل شاركوهم في ذلك بعض الإخوة من سوريا والعراق و فلسطين ، والأردن، وغيرهم من العرب، ونحن لا ننكر هذا، ونشكرهم على ذلك، ولكن لمَ هذا المنّ والإستكثار؟ ''وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ''، وهل كان ذلك مجاناً؟ ثم نحيل ''المثقف'' زيدان إلى بعض الأمور ونُسمي له بعض الأسماء لعلماء من أصولٍ جزائرية كان لهم الصيت الحسن في مصر· ما رأيه في ''ابن معطي'' مؤلف الألفية في النحو التي تضاهي ألفية ابن مالك· ترى من أي بلدٍ هو؟ وكذلك ليته يكلّمنا في شخصية ''أبي الفضل المشدالي'' ذلك العالم العلم الذي درّس في الأزهر، ثم ما رأيه في ''محمد الخضر حسين''··ومن أي بلدٍ هما؟ والقائمة طويلة، وإن يريد هذا الذي أفرغ جام غضبه حتى على اسم الجزائر· سوف نأتيه بالبراهين والحجج الموثقة ·· وليس إلقاء الكلام على عواهنهِ كما فعل هو ··أما استهجانه من إسم الجزائر·· ولماذا سميت بذلك ؟·· دعني أقول لك ··أننا لا نحفل بكلامك السقيم، واحتفظ بملاحظتكِ لنفسك·· عجباً· حتى كلمة ''الجزائر'' جعلت له في الحلقة غصة، ويريد خلق من ذلك قصة· ولكن مهما كتبنا، وأظهرنا ألاّ فضل لأحدٍ على الآخر في شيءٍ· وإنما هي أمور تكاملية· فيما عند أحدٍ يكمِّله ما عند الآخر· وليس العلمُ أو الثقافةُ مقتصرةً على شعبٍ معينٍ·· وأنّ الكمالَ لا يكون ألاّ لله سبحان وتعالى، فيأتي أمثال زيدان هذا، من أجل هزيمةٍ في كرة القدمِ يُنعت شعبٌ بقضه وقضيضهِ بأحقر الصفات، ويداوون جراح المصريين بإهانة شهداء ثورةٍ لبلدٍ· إن أقل ما يقال عنها أنها ثورة شعبية، وأنها تعدّ من ثورات القرن العشرين الأكثر صيتاً· ومع ذلك، زيدان هذا يريد أن يلهي جماهير مصر، أنه قد وقع شيئاً في السودان، وأن الذي يلاحظه العقلاء فيما يقوله أمثال هذا ''المثقف'' الذي يقول كلاماً يجعل منه وكأنه مسلّمات وحقائق· ''فمثلهُ والحقائق في ذلك مثل ''بركرستيس'' وضيوفه· فيما يحكيه قدماء اليونان في أسطورة ''ثسيوس'' أنه كان عند ''بركرستيس'' فراشٌ واحدٌ محدود الطول، وكان يطبق طوله تمام التطبيق على كل ضيفٍ يأتيه· وكانت طريقته على ذلك بسيطة، كان إذا وجدَ الضيفَ قصيرًا شدّه حتى يصيرَ طوله كطولِ الفراشِ، وإن مزّق الشدّ أوصاله، وإذا وجدَ الضيفَ طويلاً بتر منه ما يزيدُ عن طولِ الفراشِ، فكان الضيوفُ الذين يوقعهم نحس طالعهم بين يديه يأتيهم الموت بين الشدِّ والبترِ· ولم ينجُ منه إلاّ واحدٌ صادفَ أن كان طوله كطول السرير فلم يحتج ''بركرستيس'' إلى شدّه ولا إلى بتره، فاستبقاه خادمًا ··· كذلك صاحب ''عزازيل'' عنده فرضٌ واحدٌ لا بدّ من المطابقة بينه والحقائق، فعرضه عليه يشدّ منه القصير ويبتر منه الطويل ليجعله كله منطبقا تمامًا على فرضه، فكان نصيب ''الحقائق في السودان'' من المسخ على يديه ما كان نصيب ضيوف ''بركرستيس''، ولم ينج منها إلاّ ما وافق فرض هذا كما لم ينج من أولئك إلاّ ما طابق سرير ذلك· ولكن ما مات منها لم يمت ولن يموت إلاّ في ذهن وفكر من أخذ بمبدإ صاحب ''عزازيل''· وإذا ما تركتُ المجازَ واتخدتُ الواقع، كانت خطة ومهاترات زيدان هذا·· إزاء فرضه وحقائق ما جرى في السودان عكس كل ما قاله أهل السودان· ومع ذلك لا يزال يكذب هذا الذي يدّعى التصوّف· رمضان سيطور ولكن لو قيس ما تفوّه به زيدانُ هذا، بما يكتبه الذين يقدّرون الكلمة، لنال وساماً من الإبداع، ولكن بتصويرٍ آخر، حين أحدث أسلوب الكاتب الذي يهرف بما لا يعرفُ، أو أسلوب حاطب ليلٍ، وبالسّباب جارف سيلٍ، وهنيئاً لك بذلك الوسام· نيشان الصفاقة والخسة أين كان ضميرك·· أيها ''الصوفي'' زوراً· فهل أنبأك ضميرك بهذا ولكَ ابتسم، ثم صفق لك بما علم· فسلامٌ على أمانة الكلمة و''مرحى'' أيها القلم· ليس العلمُ أو الثقافةُ مقتصرةً على شعبٍ معينٍ·· وأنّ الكمالَ لا يكون ألاّ لله سبحان وتعالى، فيأتي أمثال زيدان هذا، من أجل هزيمةٍ في كرة القدمِ يُنعت شعبٌ بقضه وقضيضهِ بأحقر الصفات، ويداوون جراح المصريين بإهانة شهداء ثورةٍ لبلدٍ· إن أقل ما يقال عنها أنها ثورة شعبية، وأنها تعدّ من ثورات القرن العشرين الأكثر صيتاً·