يجد زوّار أم البواقي، وحتى سكانها، أنفسهم في مأزق لا يُحسدون عليه في أحيان كثيرة إذا أرادوا قضاء حاجتهم، وخاصة المرضى منهم، في ظل غلق أصحاب غالبية المقاهي لدورات المياه بحجة انعدام المياه وانبعاث الروائح الكريهة التي تنفّر الزبائن، وانعدام مراحيض عمومية.. المسلمون اتخذوا المراحيض بجوار المسجد للوضوء وتم اعتمادها في المنازل بعد غزوة خيبر المواطن يتأسف لتراجع الخدمة العمومية، والبلدية تنفض يدها من مسؤولية المراحيض ليبقى الحل الوحيد هو مراحيض المساجد التي أضحت مكتظة على مدار اليوم، فإذا رأيت جمعا من المواطنين أمام مساجد ولاية أم البواقي مصطفة في طوابير طويلة، فذلك لا يعني أن وقت الصلاة قد حان، ولكن تلك الجموع تنتظر دورها لدخول المرحاض! كلما مرّ شخص أمام مسجد أو جامع، يشم الروائح الكريهة عوض أن يشم رائحة المسك والعنبر، وهي الظاهرة التي أصبح يتقزز منها المواطن وكل مقبل على المساجد، كما عبّر لنا كثير ممن اقتربنا منهم.. فعبد الرشيد جلاب، أستاذ جامعي في التاريخ، تأسف لهذا التراجع في الخدمة العمومية، ويقول في هذا الصدد: “عندما كانت الجزائر تحت وطأة الاستعمار، كانت هناك العديد من المراحيض العمومية التي بناها المستعمر، لكن اندثرت هذه الأخيرة مباشرة بعد استقلالنا نظرا لانعدام الصيانة وتخلي المسؤولين عن فكرة بناء مراحيض عمومية في شوارع المدن، ما جعل مراحيض المساجد وجهة لكل من تعذر عليه قضاء حاجته. مرتادو دورات مياه المساجد أكثر من المصلين في جولة ميدانية ل”الفجر” في شوارع وأحياء بعض بلديات ولاية أم البواقي، وعلى مدار أسبوعين كاملين، أعرب عدد كبير من أصحاب المحلات التجارية والمرافق السياحية عن استيائهم وتذمّرهم الشديد من عدم توفر مراحيض عمومية في مدنهم، إذ أن آلاف المواطنين يدخلون الولاية يوميًا. ويضيفون أنه مهما كان هدف الزائر، إن كان للتجارة أوالتسوق أوالترفيه، وحتى العابر فقط، فهو بحاجة لاستعمال المراحيض، وعدم توفرها في هذه المدينة يعد مشكلة يعاني منها الزائرون، فأين يقضي المواطن حاجاته الطبيعية، والتي كثيرا ما لا تقبل الإنتظار أو التأجيل، وخاصة بالنسبة للمرضى منهم وكبار السن؟! . ويقول (شكيب. ح) صاحب محل لبيع قطع غيار السيارات في مدينة عين مليلة: “هذه مشكلة كبيرة جدًا ويعاني منها الكثير من زوّار هذه المدينة العريقة، لأنها لا تتوفر على مراحيض عمومية”. وأضاف.. “يدخل السياح أو الزوار، وحتى عابري السبيل، إلى محلنا التجاري ويستعملون المراحيض بكل لوازمه من صابون ومحارم ومياه ويخرجون وهم مرتاحون، وهي خدمة عمومية مفقودة في بعض المحلات التجارية التي تفتقر لمثل هذه المرافق”. وأشار محدثنا إلى أنّ العديد من الزبائن يلجأون إلى الأماكن المعزولة أو الزوايا المغلقة لبعض الشوارع لقضاء حاجتهم، خاصة أن جلّ مقاهي المدينة أغلقت مراحيضها بسبب نقص المياه، إضافة إلى الأوساخ التي يتسبب فيها مرتادوها والروائح الكريهة التي تنبعث منها، وهو ما يجعل الساحات العمومية فضاءات قذرة تصدم المواطن حيثما حل وارتحل. من جهته، قال صالح أبركان، صاحب مطعم بوسط مدينة عين مليلة:”مازلنا نعاني من هذه المشكلة الكبيرة، خصوصًا أن مدينة عين مليلة مليئة بالمطاعم. كما نرى في أي مكان أو مدينة يقصدها الكثير من الزوار بشكل يومي ودائم، يجب أن تتواجد مراحيض عمومية، حتى لو لم تكن مجانًا، لأنه شيء مؤسف أن تصبح مساجدنا مجرد أماكن لقضاء الحاجة وفقط”. مسؤول محلي.. بناء المراحيض العمومية ليس من مهامنا مقابل هذه الإنشغالات الموضوعية والملحة، اقتربنا من الجهات المعنية ببلدية عين مليلة لتحسس حقيقة الأمر والجهة المسؤولة، فقال أحد المسؤولين لنا: “إن البلدية باستطاعتها بناء مراحيض عمومية ولكنها غير معنية ببنائها”، وأضاف: “كانت المراحيض العمومية سابقا موجودة في أكبر الشوارع والساحات العمومية، لكنها كانت تتحول ليلا إلى أوكار لتناول سموم المخدرات وممارسة الفعل الشنيع، لذا نحن اليوم غير معنيين بإعادة بنائها تبعا لمقولة “الباب الذي منه الريح سده واستريح”...! وعند طرحنا لانشغالات أئمة المساجد لهذا المسؤول، أجاب “أن ما يحدث بمساجد المدينة لا يهمّنا، أو بالأحرى ليس من شأننا أو اختصاصنا، وبالتالي المفروض عليكم طرحه على الجهات المعنية به”. بيوت الله أم بيوت لقضاء الحاجة..؟ أصبحت العديد من المساجد بولاية أم البواقي، تعيش وضعية مزرية، بعدما تحول البعض منها إلى مراحيض وأماكن لرمي القاذورات، وأصبح مصير البعض الآخر مجهولا، فيما أضحى البعض الآخر مهجورًا، خصوصًا تلك الموجودة بوسط كبريات بلديات الولاية، كعين مليلة وأم البواقي وعين البيضاء وسيڤوس وعين الفكرون. ويؤكّد عضو الجمعية الدينية لمسجد الفرقان في عين البيضاء، أنه بسبب افتقار كثير من دورات مياه المساجد إلى الصيانة والنظافة، تحولت إلى أماكن موحشة تتراكم فيها مختلف أنواع النفايات في مشهد لا يليق أن يجاور المسجد. وتعاني “بيوت الله” من مشكلة جديدة فرضت نفسها مؤخرًا، وهي إقبال عدد كبير من الأشخاص الذين يقصدون دورات المياه لقضاء حاجياتهم أكثر من صفوف تأدية الصلاة. ويرى الإمام عبد السميع فزاني “أن المساجد تحتاج أولا إلى نظرة مختلفة إليها، وإلى القائمين عليها، ومن ثم تسوية مشاكلها اليومية من الماء والطاقة وحد أدنى من المرافق اللازمة”، مشيرًا إلى أن المساجد هي التعبير الجماعي عن إيمان الشعب، ولا تلقى المساجد في ولاية أم البواقي أي دعم مباشر أو منتظم من الدولة، حيث لا توجد مؤسسة محلية بلدية تتولى رعايتها، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة. “ممنوع البول” و”ممنوع رمي القمامة” على جدران المساجد “ممنوع البول” و”ممنوع رمي القمامة” وفي بعض الأحيان تضاف إليها بعض العبارات اللبقة تذهب حتى الاستعطاف ك”من فضلكم” و”شكرًا” و”هذا مسجد”، وغيرها من السلوكات التي أصبحت ثقافة المواطن بولاية أم البواقي، هي عبارات وجمل أصبحت تلاحظ بكثرة على جدران العديد من مساجد وجوامع الولاية تكتب بحروف بارزة وغليظة وبصباغة مثيرة للإنتباه، وقد ألف المواطن المحلي مشاهدتها حتى لم يعد يتنبه إليها بعد أن أصبحت من مشاهده اليومية المألوفة. ويقول الإمام عبد السلام حساني، من سيڤوس، “لم يعد الناس يحترمون الأماكن المقدّسة مثل المساجد والجوامع، فيتبولون على جدرانها أو يتخذون ركنا من أركانها مرحاضًا، أو مكانًا للقاذورات”. وحمّل مسؤولية هذه الظاهرة التي بدأت تستفحل في مجتمعنا إلى جميع الجهات، حيث لا ضمير ولا أخلاق ولا مواطنة لدى البعض، الذي يريد أن يتخلص من وسخه وقمامته برميها للجهة الأخرى، “كما أن المجالس الشعبية البلدية لم توفر مراحيض عمومية، ولم تستطع شركات النظافة تغطية جميع أحياء الولاية، وعلى الأقل فهي تتأخر في أداء واجبها، والنتيجة هي هذه المشاهد المقززة التي تشوه ولايتنا”. صينيون ويابانيون وأفارقة ضمن الطوابير كانت ولاية أم البواقي تتوفر إلى عهد قريب على عدد من المراحيض العمومية، بُنيت في عهد الإستعمار الفرنسي، خاصة بالشوارع الكبرى التي يرتادها المواطنون وبعض الطرقات التي تؤدي إلى الأحياء الآهلة بالسكان وتعرف حركة نشيطة للمارة. كما كانت هناك مراحيض بالقرب من المساجد، وكانت هذه المراحيض تستقبل المواطنين من المارة أو المتجولين والمتنزهين، ومنهم الأطفال والعجزة والنساء الحوامل والمرضى، الذين يفاجئهم قضاء حاجاتهم الطبيعية في أوقات غير مناسبة أحيانا وهم خارج بيوتهم، مقابل مبلغ مالي رمزي، حيث كانت تلك المراحيض العمومية تحت مسؤولية المصالح البلدية في إطار الخدمات العامة التي تقدمها للمواطن. أما اليوم، فمقابل قضاء الحاجة الطبيعية ببعض المراحيض الخاصة، يُرغَم المواطن المسكين الذي يقع رهينة حاجته الطبيعية على دفع 20 دينارًا على الأقل، وإن كان ذلك طلبًا مشروعًا لفائدة القائم على نظافة المكان والذي يعدّ ذلك موردًا لرزقه. ولم تعد المجالس الشعبية البلدية تؤمن العديد من الخدمات للمواطن كما كان من قبل، بل عملت على القضاء على المراحيض التي كانت منتشرة هنا وهناك، واستحوذت على فضاءاتها وحولت بعضها إلى مقرات أو دكاكين أو محلات تجارية. وكان من واجبها أن تضاعف عددها مقارنة مع ارتفاع عدد سكان المدن بشكل كبير وبحكم تغير العادات الإستهلاكية للمواطن الذي يأكل ويشرب بشراهة خارج البيت، إضافة إلى عدد استقبال الولاية لعدد من الزوار والسياح الذين يحتاجون إلى قضاء حاجاتهم خلال تجوالهم. وهنا تحضرني حادثة طريفة، لكنها مؤسفة، تتعلق ببعض الصينيين واليابانيين العاملين بالولاية والذين كانوا يعتقدون أن المساجد هي بمثابة مراحيض عمومية واستراحات، حيث كانوا يرتادونها لقضاء حاجاتهم الطبيعية، ثم الدخول إلى المسجد للاستراحة وحتى النوم والأكل.. وبعد تدخل بعض المصلين وإقناعهم بأن المساجد هي أماكن مقدسة ومخصصة للعبادة تفهم هؤلاء الآسيويون الذين يعتنق معظمهم البوذية، ولكنهم أصبحوا يقضون حاجتهم الطبيعية في الشوارع وعلى قارعة الطرقات، وحتى في الهواء الطلق دون حياء أو حشمة. رأي الشرع: ابنوا المساجد وأخرجوا القمامة منها يقول إمام مسجد الصحابة بعين مليلة، إن الإسلام أمر بتعمير الأرض بالبناء عليها، وحث عليه لحماية الإنسان من حرِّ الشمس وبرد الشتاء وأمطاره، وجعل اتخاذ المساكن نعمة من الله لمخلوقاته، قال تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين} [النحل: 80] . وأوضح الإمام أنه لما جاء الإسلام اتخذ المسلمون المراحيض بجوار المسجد لقضاء الحاجة، ثم الوضوء، وكان ذلك بعد غزوة خيبر، واتخذوها في البيوت بعد ذلك. ودعا الإمام قاصدي دورات مياه المساجد إلى التحلّي بالنظافة والنظام، “سواء الذين يصلّون أم عابرو السبيل، الذين يضطرون لدخول مراحيض المساجد رغمًا عنهم بسبب انعدام المراحيض العمومية في ولايتنا”. فيما يقول إمام مسجد التوبة بسيڤوس: “إن لتنظيف المسجد أجرا ًعظيما قد أبلغ عنه حبيبنا عليه أفضل الصلاة والسلام، وقال تعالى “في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه يُسَبِح له فيها بالغدو والآصال”. وأضاف أن المساجد أماكن عامة تؤدى فيها أعظم عبادة، فهي بحاجة إلى كل العناية والرعاية، لتؤدي النفس عبادتها، وهي مقبلة بخشوع وطمأنينة، فآكل الثوم والبصل لما آذى المصلين برائحته أمره الشارع بالخروج من المسجد تعزيراً له. دراسة علمية: المراحيض القذرة تنقل الالتهاب الكبدي والسل تحذر مصادر طبية متطابقة من انتقال أمراض خطيرة عبر مراحيض المساجد، مثل الالتهاب الكبدي أو السل، لافتين إلى أن “بعض دورات المياه تعاني من تدني مستوى النظافة وإهمال الإشراف عليها، ما يحولها إلى بيئة خصبة لتكاثر الجراثيم، والميكروبات الناقلة للأمراض”. وكشفت جولة ميدانية قامت بها “الفجر” عن وجود عدد كبير من مراحيض المساجد في مناطق متفرقة على مستوى ولاية أم البواقي تعاني من سوء نظافتها، وتنبعث منها روائح كريهة غير لائقة بأماكن العبادة. وأبدى مصلون التقت بهم “الفجر” استياءهم من هذا المستوى المتدني لدورات مياه المساجد، وقالوا إن دورات مياه المقاهي والمطاعم والإدارات العمومية والمراكز والمحلات التجارية تنظف كل دقيقة، وتستخدم في نظافتها مطهرات ومعطرات جو مرتفعة الثمن، وهناك إشراف ورقابة دقيقة عليها، في حين تهمل دورات مياه المساجد وتُترك لمتطوعين ينظفونها ساعة ويتركونها أياماً.. حيث يقول الحاج بلقاسم عناب، من عين البيضاء، إن مسجداً افتتح مؤخرا بالقرب من وسط المدينة، يعاني من انبعاث روائح لا تطاق من دورات المياه، متسائلاً: “كيف يترك المسجد الذي افتتح قبل أشهر، لتصل دوراته لهذا المستوى المتدني من النظافة؟؟”.