صورتان لم تغادرا مخيلة النملة وهي تبتعد عن الدائرة التي كانت ذات يوم دائرتها؛ صورة الفراشات الخمس ذوات الألوان الزاهية والسُّحَن الغربية والآسيوية الشرقية، اللواتي كن في مكتب الاستقبال يطلبن من كل زائر تعبئة استمارة مكتوبة بلغة غير لغة أهل مملكة النمل، وصورة الأعداد الغفيرة من النمل اللواتي كن يقفن على مدخل الدائرة وقد حملت كل واحدة منهن ملف سيرتها الذاتية وشهاداتها، بحثا عن عمل. تُكْمِل هاتين الصورتين صورة الحارس ذي السحنة الإفريقية واللكنة الأمريكية، وهو يمنع جموع النمل الباحثات عن عمل من دخول الدائرة، لعدم توفر شواغر لهن وفق تعليمات إدارة الموارد البشرية التي لم تكلف نفسها عناء مقابلة النمل الباحثات عن عمل في مملكتهن الغنية! كانت النملة قد تذكّرت بعد ابتعادها عن بوابة الدائرة، أنها قرأت عن معرض للوظائف سوف يقام قريبا، لذلك تابعت على مدى الأيام التي تلت زيارتها الأخيرة للدائرة، الأخبار التي كانت تنشر في الصحف عن معرض الوظائف المنتظر، وقد لفت نظرها كمُّ التصريحات التي كانت تصدر من مدراء الدوائر الحكومية والشركات الخاصة، والتي كانوا يعبّرون فيها عن مدى حرصهم على المشاركة في المعرض، وعن فرص العمل التي سيطرحونها لمواطني مملكة النمل، وعن خطط التوطين التي يعملون ليل نهار على وضعها. وكان أعجبَ ما قرأته لقاءٌ مطولٌ تم نشره على صفحة كاملة مع مدير الدائرة التي طردت منها، وقد احتلت صورة «الدبور» رأس الصفحة التي بدت كأنها إعلان مدفوع، ولفت نظرها شكل «الدبور» الذي بدا مرتديا حلة بهية وقد زاد وزنه بعد أن تم تعيينه مديرا للدائرة. كما ظهر في الصورة ممسكا بسيجار كبير من ذلك النوع المستورد من «هافانا» كي يليق بشخصية أصبحت لها مكانتها في مملكة النمل، وقد خطر ببالها عند رؤيتها "الدبور" المثل الشعبي الشهير (دبور وزنّ على خراب عشه)، لكنها ابتلعت غصتها عندما تذكرت أن "الدبور" قد خالف المثل (وزنّ على خراب الدائرة) بينما بقي عشه محميا لم يقترب منه أحد. قررت النملة بعد أن قرأت هذا الكم الهائل من الأخبار والتصريحات عن معرض الوظائف أن تزوره، علّها تغير الفكرة السائدة عن خطط التوطين التي يتحدث الجميع في مملكة النمل عن فشلها رغم كل هذه الطنطنة لها، لذلك أعدّت لنفسها ملفا متكاملا، ضمّنته سيرتها الذاتية وصورا من شهاداتها الدراسية، وشهادات الخبرة التي تحملها، ورسائل الشكر التي كانت تتلقّاها قبل أن تطرد من الدائرة، وكل الدورات التي شاركت فيها. وقد ساعدتها في تجهيزه نملة لها باع طويل في إعداد مثل هذه الملفات، ولم تنس النملة الخبيرة أن توصي نملتنا بتصوير عشرات النسخ من ملفها كي تودع نسخة منه لدى كل جهة مشاركة في المعرض، حتى لو كان مجال عملها بعيدا عن تخصصها، كما أوصتها أن تدخل المعرض برجلها اليمنى، وأن تقرأ المعوذات وآية الكرسي وسورة يس قبل دخولها. كان يوم افتتاح المعرض يوما مشهودا في مملكة النمل، أضاءت فيه أرجاء المكان فلاشات عشرات كاميرات التصوير التي سجلت جولات كبار المسؤولين في جميع الأجنحة، ونقلته محطة تلفزيون المملكة على الهواء مباشرة، وأُعِدّت عنه عشرات التقارير في نشرات الأخبار. وخصصت له برامج البث المباشر فترات طويلة، وتبارى مدراء دوائر النمل في الإدلاء بالتصريحات للصحافيين وممثلي وسائل الإعلام، عن خطط التوطين التي تعمل على تنفيذها دوائرهم، والنِّسب التي تسعى إلى تحقيقها، الأمر الذي ملأ نفس نملتنا تفاؤلا وحماسا، ودفعها إلى توزيع كل الملفات التي أعدّتها على جميع الدوائر المشاركة في المعرض، تنفيذا لوصية النملة الخبيرة. ورغم موجة التفاؤل التي ملأت نفسها في ذلك اليوم، إلا أن ثمّة أشياء استرعت انتباهها أدّت إلى كبح جماح الحماس الذي كان يدفعها، فقد لاحظت مثلا أن اللّواتي كن يتلقين طلبات التوظيف في جناح الدائرة التي كانت ذات يوم دائرتها، هن الفراشات الخمس نفسهن ذوات الأوان الزاهية والسحن الغربية والآسيوية الشرقية اللواتي رأتهن في مكتب استقبال الدائرة. كما لاحظت أن عددا كبيرا من مدراء الموارد البشرية الذين كانوا يشرفون على أجنحة دوائرهم، ليسوا من أهل مملكة النمل الذين تعرف أشكالهم وسحنهم جيدا، وهالها أيضا عدد النمل الذي تقاطر في ذلك اليوم على معرض الوظائف، إلى الدرجة التي تصورت معها أن أكثر من نصف سكان مملكة النمل عاطلون عن العمل! ومع كل هذا، فقد حاولت طرد الأفكار المحبطة التي كانت تحاول التشويش على فكرها، في تلك اللحظة التي كانت تتمسك فيها ببارقة الأمل التي لاحت لها وسط ضباب اليأس الذي كان يحيط بها ويكاد يتحول إلى ظلام دامس، لولا المحاولات التي تبذلها لإزاحته من طريقها والعودة من جديد إلى ما كانت عليه من همة ونشاط قبل الكارثة التي حلت بدائرتها. تعبت نملتنا من التنقل بين أجنحة المعرض فقررت أن تأخذ فنجانا من القهوة في أحد المقاهي المنتشرة في أرض المعارض، حيث كانت مجموعات من النمل الباحثات عن عمل يجلسن في حلقات حول الطاولات المنتشرة في المقهى. وهناك سمعت نملتنا من الحكايات ما شاب له قرنا استشعارها، فدوّنتها على أمل أن ترويها لكم ذات يوم. ملاحظة: لاحظت النملة أن جميع قوائم الطعام والمشروبات في مطاعم المعرض ومقاهيه، مكتوبة بلغة غير لغة أهل مملكة النمل، كما لاحظت أن جميع العاملين في هذه المطاعم والمقاهي، بل وفي جميع مرافق المعرض، من غير أهل المملكة ولا يتحدثون لغتها، فأخذت تتلفت حولها بحثا عن لافتات المعرض كي تتأكد من أنها فعلا في معرض الوظائف الوطنية، الذي قرأت عنه طوال الأيام الماضية في صحف مملكة النمل التي حيّرها أمرها. بقلم : علي عبيد كاتب إماراتي