كان لزاما علينا أن نعود مجددا إلى موضوع النقد الأدبي في الجزائر، مع تزايد الأصوات المزايدة في وجوده من جهة، والطاعنة في وجوده من جهة أخرى، في الوقت الذي يُجمع فيه المتابعون للشأن الأدبي في الجزائر، على أن غربال النشر اتّسعت مساماته، وضاق بما حمل.. لذلك نفتح القوس اليوم أيضا، للرّاسخين في الغربلة، لخلخلة إشكالية غياب النقد المتخصص في الجزائر، في خضم "إسهال الكتابة واستسهال النقد".. ما أصعب أن تكون ناقدا في الجزائر! من موقعي كمتابع دائم للحركة النقدية الجزائرية، ومسهم (بالقدر المستطاع) في بعض تفاصيل المشهد النقدي، أسجّل افتقار الساحة النقدية الجزائرية - في الوقت الحالي- إلى ما يمكنني تسميته بالناقد المنتظر (الذي أتعمّد نسجه على وزن "المهدي المنتظر") الأدبية ممّا يحيق بها من الغبن والحيف والفوضى، أقصد الناقد العارف المتابع للإصدارات الجديدة، يقرأها ويحدّد إحداثياتها الفنية وموقعها من الخارطة الأدبية، وبعدها يكون قد أنزل أصحابها منازلهم من تاريخنا الأدبي. في وقت سابق، كان يضطلع بهذا الدور نقاد من طراز عبد الله الركيبي ومحمد مصايف (رحمه الله)...، أمّا اليوم فقد تراجع هذا الدور النقدي مع تراجع الصحافة الأدبية التي تمثل المجال الحيوي للنقد الصحفي الذي أراهن عليه في استعادة الدور الوظيفي للناقد. في غمرة هذا الفراغ، خلا المجال لظهور لون جديد من النقد هو (النقد الجامعي) الذي يستخف بالنقد الصحفي دون أن يقدّم البديل المقبول، لأنّ أصحابه - في عمومهم - هم باحثون وأساتذة جامعيون منزوعو الذّائقة الجمالية في كثير من الأحوال... يلوكون أفكارا مجرّدة ونظريات مثالية، ويستجمعون ركاما من الأقوال الشرقية والغربية وأثقالا من الهوامش والإحالات، وحين يبلغون النصوص الممتعة الخلاّقة تغلق دونهم، ويسقطون على عتبات أسوارها مثقلين بأسفارهم التي لا تغنيهم شيئا حينها. وحينها يضطرون إلى تعويض "الذوق المنزوع" بممارسات آلية جاهزة يسهل تطبيقها على كلّ النصوص دون مراعاة للخصوصية النّصية. أعتقد أنّ المناهج الوصفية قد عمّقت هذا الجرح النقدي في الجسد النصي الجزائري، لأنّ الناقد الذي لا يتذوق الفارق الجمالي بين النصوص ولا يقوى على المفاضلة بينها، لا يستحق لقب الناقد (بالمفهوم الوظيفي المعياري). يلاحظ كذلك أنّ أهرامات النقد الجزائري قد تهاوت حقيقة ومجازا ؛ فقد مات مصايف وخرفي ودودو، واعتزل سعد الله وناصر والركيبي، ولم يبق من ذلك الجيل النقدي المؤسّس سوى هرم واحد كان حريصا على التأقلم مع كل الأجيال والمناخات، حريصا على ترميم ذاته وتجديد جهازه النقدي وأدواته المنهجية، هو عبد الملك مرتاض الذي يمكن اعتباره الناقد الأول أو الأكبر في بلادنا. ثمّ جاء جيل أمثال : عبد القادر فيدوح ورشيد بن مالك وحسين خمري وشريبط ومفقودة ومخلوف عامر وأحمد يوسف وعمر بن قينة وملاحي وبوطاجين ومنور وآمنة بلعلى والسّد والعشي...، وهو جيل يمكن الرهان على بعض أسمائه، لكن البعض الآخر انخرط في مساوئ النقد الجامعي، وانقطع عن التواصل مع الحركة الأدبية الجزائرية. وبين الحين والآخر تظهر شمعات نقدية حالمة، لكنّها سرعان ما تنطفئ لعلّ أبرز خسارة نقدية في هذا المجال هي اسم (إبراهيم رماني) الذي ربحه المجلس الدستوري وسفاراتنا في الخارج، وخسره النقد الأدبي الجزائري خسارة فادحة يصعب تعويضها! ثمة ملاحظة أخيرة لا بدّ منها، استوحيتها من تجربة خاصّة متواضعة ومن تجارب بعض النقاد الأصدقاء، هي : ما أصعب أن تكون ناقدا في الجزائر!، فالويل لك إذا أردت أن تتخذ موضوعك النقدي من كاتب جزائري لا يزال على قيد الحياة الأدبية أو البيولوجية، لأنّ في مخيلة كل مبدع جزائري "خارطة الطريق" ما ينبغي لأيّ ناقد أن يحيد عن معالمها وأحكامها، وإذا لامس الناقد بعض حدودها وخطوطها الحمراء فإنّ اسمه النقدي مهدّد بالشطب وتاريخه مهدّد بالزوال!، لأنّ الكاتب يرفض أن تحكم عليه بغير ما يريد، ولا يريد سوى أن تكتب عنه بالفعل ما يبتغي بالقوّة، بل يشتهي أن يستعير اسمك النقدي ليكتب به عن نفسه ما يشاء! وقد أدرك بعض النقاد الجزائريين هذه الحقيقة المؤلمة فوجّهوا أقلامهم شطر نصوص غير جزائرية، وهو شرّ نقدي لا بدّ منه في مثل هذه الحالة! د. يوسف وغليسي جامعة قسنطينة نقد .. أم تشهير .. وإلى أي حد تستطيع قافلتنا الثقافية التخلص من عاهة الإشهار، وداء التشهير لفائدة النقد النزيه الخلاق؟.. ذاك تساؤل مشروع واجهني وصافحني هذه الأيام وأنا أطالع وأتابع بعض الكتابات النقدية الناقدة والمنتقدة، وسرعان ما عدت لأتصفّح أوراق كتابي الجديد: بصمات وتوقيعات الصادر ضمن منشورات وزارة الثقافة، ولأقرأ بين أحبابي المقربين بالصوت المكتوب والمسموع.. شتان ما بين النقد والإشهار، إنه لفرق شاسع ما بين النقد والتشهير، وهل يفيد السراب والضباب طبيعة قاحلة جرداء تستجدي قطرات الغيث؟.. الإشهار، مرتبط لدى المتلقي غالبا بالإعلان عن سلعة كاسدة مكدّسة، يريد لها صاحبها رواجا سريعا عن طريق الدعاية، ومن هنا تمتزج الكلمات مع بعض لدى نفس المتلقي: الإشهار، الإعلان، الدعاية، وهي كلمات لها وقع سيئ وموقع منفّر، أو غير مريح على أقل تقدير. والتشهير مرادف لدى المتلقي لكلمة التجريح أو القدح، أو تشخيص العيوب، وهي كلمة رديئة وسيئة السمعة، يقابلها المرء، بالنفور والتقزز والإشمئزاز. والنقد يحرص دوما على ارتداء لباس الرزانة والحكمة والموضوعية، ويكره بريق الإشهار وحدة التشهير. أما الحال عندنا على حلبة أو خشبة المسرح الأدبي والثقافي، فقد طغى الإشهار حتى لم يعد للمتلقي مجال للتمييز والإختيار. فإذا العملة الرديئة تطرد العملة الجديدة الجيدة من السوق، وإذا الكم يعلو على الكيف، والعرض يفوق الطلب. وكانت النتيجة أن الإبداعات الأدبية والثقافية، يروج لها أحيانا بين الأحباب والخلان من خلال كتابات إشهارية، وكأننا أمام بضاعة تباع وتشترى، أو سلعة كاسدة مكدسة، فاختلط الحابل بالنابل، وامتزج التبر بالتراب، وتضاءلت حرارة الجمر وسط برودة الرماد. وأمام صورة السوق هذه بوفرتها وندرتها، ظل المبدع ينتج ويتفرج، في صمت ووقار، بعيدا عن الأضواء، يبحث عن مسلك ضيق، وسط الزحام، للمرور والوصول إلى القارئ الهادئ، من غير أن يعير كبير اهتمام لتأشيرة النقد، أو حتى لبريق الإشهار وطعنات التشهير. لكن هل كل مبدع له كامل الاستعداد الفطري لتقبّل كلمة النقد الرصين الرزين، واللّذيذ الجارح في نفس الوقت؟ وهل الساحة - بناسها طبعا - قادرة على احتواء واحتضان النقد الهدام البناء؟ وماذا يمكن أن يقال عن نقد النقد نفسه؟ قد تبدو المسألة عويصة وشائكة، يحتاج حلها إلى حكمة وثبات، لكن لماذا لا نجرب من الآن، وقبل فوات الأوان، إصلاح عجلة الإبداع وتصليح غربال النقد؟ هل من ترتيبات ضرورية وإجراءات وقائية، قبل أن يستفحل الداء ويستعصى الدواء؟ أن نكثر من الإعلام وليس الإعلان حول الجديد في الحقل الأدبي والثقافي، حتى لا تخنق وتختنق المبادرات والإرادات والإبداعات في مهدها بالصمت والتهميش واللامبالاة. أن نبتعد عن الإشهار والتضخيم والوعظ والإرشاد. وأن نحذف من قاموس كتاباتنا وأقوالنا كلمات مجانية مثل: عمل عظيم، قيم، رائع، أو يجب، أومن الضروري. أن نقترب بحب وإخلاص من النّص الأدبي قبل الالتفات إلى صاحبه، من غير محاباة أو مجاملة، ولا قدح أو تشهير. أن نعود إلى المناهج النقدية الحديثة التي تستوعب همومنا الإبداعية، وألاّ نحمّل النص الأدبي فوق طاقته المحدودة. تلك باختصار بعض الخطوات العملية على درب النقد الموضوعي، البعيد عن الإشهار أو التشهير. ولعل مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، وكل من سار على الدرب وصل، ومع ذلك يظل التساؤل المشروع قائما شامخا.. وإلى أي حد تستطيع قافلتنا الثقافية التخلص من عاهة الإشهار، وداء التشهير لفائدة النقد النزيه الخلاق؟..