ربّما هي فكرة مبالغ فيها بعض الشيء، لكنني انتبهت في الأيّام الأخيرة فقط، إلى أن الأسطورة فيروز، إنسان مثلنا تماما..!! يأكل ويشرب ويقود سيّارته في الزحام وقد تسحب رخصة سَوقه أو تسرق محفظة يده وقد يجرجر في أروقة المحاكم كأيّ مواطن عاديّ عليه واجبات توازي حقوقه... فيروز إنسان؟!! لست هنا بصدد تأليه هذا الصوت الخرافي لا سمح الله، ولا أنا في موضع الخوض في قضيّة فيروز مع ورثة الرحابنة، لكنني شعرت أن الكثير من المولعين بالعوالم الفيروزية، من المحيط إلى الخليج، لم يُنزلوا فيروز من عرشها الملائكي لينظروا إليها نظرة الأقران في الجنس البشري، إلا على أعقاب القضيّة الأخيرة التي أكلت منها الصحافة العربية والأوساط الفنيّة حتى التخمة... لكن؛ لو نظرنا إلى قضيّة الأسطورة الفيروزيّة بحياد (مع أنني أعترف أن مصطلح الحياد، غير وارد عندما يتعلّق الأمر بفيروز)، دعونا نتساءل معا: عن سرّ ذاك السحر؟ ما سرّ ارتفاع صورتها - رمزيا - إلى مصاف الملائكة؟ هل هو الصوت؟ الالتزام؟ العيون الجاحظة بالأسرار؟ أم الفكر الرحباني الذي رسم لها خارطة طريق الملائكة؟ أم هو الغياب؟؟ دعوا مسألة الصوت جانبا، حتى "لا نفسّر ما لا يفسّر" على رأي الشاعر الراحل نزار قبّاني.. ودعوا مسائل الالتزام أو العيون الجاحظة بالأسرار أو الفكر الرحباني جانبا أيضا، ودعونا نركّز على مسألة الغياب. فيروز، ذات الحضور الإعلاميّ النادر، المختبئة وراء صمتها الهادر.. فيروز؛ المخلوق الذي لا تحفظ له ذاكرتنا كلاما غير ملفوف بالموسيقى، سيّدة الحضور في الغياب.. هبوا أنها كانت متاحة في الإعلام، تُسأل فتُجيب، تُدعى فتُلبّي، هل كانت ستحظى بكل ذلك الصيت الملائكي؟؟.. فيروز وجميلة بوحيرد، هما وجهان لصمت واحد، الأولى أسطرها الطرب والثانية أسطرتها الثورة، لكنهما اشتركتا في الصمت، اشتركتا في الغياب، واشتركتا أيضا في الحضور السلبي مؤخرا.. جميلة، نطقت طوعا بعد صمت أسطوري، فوجدت نفسها مجددا بين البشر بعد عمر من السُكنى مع حوريات الجنّة، في أذهان أجيال الاستقلال.. أمّا فيروز فأنزلتها المحاكم قهرا بعد عمر من السُكنى بين الملائكة وبعد صمت أسطوريّ، لتجد نفسها مجددا بين البشر. هو الحضور الذي يعيد ترتيب الأشياء، ويكبح جنوح الخيال.. هو الحضور الذي يغيب، عندما لا نثق كثيرا في الصمت.. هو الصمت الذي رفع فيروز وجميلة إلى سقف السماء، قبل أن يطالهما الكلام غير المباح..