لم أكن أنوي الكلام عن فيروز.. لم يكن لدي أي داع لتذكرها في تلك اللحظة أو حتى في غير تلك اللحظة رغم أني من عشاق صوتها وفنها الذي أصبح علما ثانيا لبلدها لبنان، لولا ما قاله لي أحد أقاربي جاء ليقضي سهرة رمضانية معنا: لقد وجدت ما ينسيني الجوع والعطش.. ماذا؟ قلت له.. --''غناء فيروز'' تصوري ما إن أشغل أحد ''سيدياتها'' وينساب صوتها الحنون حتى تنساب في عروقي عذوبة كل مياه وأكلات العالم.. قد يعجب من يسمع هذا الكلام مثلما عجبت أنا منه، لكن الفيروزيين الحقيقيين لا بد أن يباركوا هكذا إحساس وهكذا شغف بالصوت الفيروزي، الصوت الذي حلق ووصل إلى ما وراء الشفافية واستقر قمرا في سماء الفن العربي والعالمي.. الصوت الفيروزي عند من يفقهونه فعلا ما عاد صوتا.. هو مصنع ثقافة ومنتج رقي.. هو مادة لإنتاج الأحلام والمشاعر السعيدة.. فيروز كقيمة فنية وكمذهب غنائي شكل منها الأخوان الرحباني حضارة وكونا من الشعرية والشاعرية امتلأت به الحضارة اللبنانية والعربية مثلما امتلأت به قلوب عشاق فنها الفائض في المسارح الغنائية والفنون الاستعراضية ..هو صوت يتسرب إلى شغاف الروح كالماء السلسبيل وينفذ إلى مهجة القلب كخيط من الضوء.. كشعاع من ذهب.. سفيرة الحنين وربة العذوبة تعدت اليوم السبعين سنة ولا زالت على طراوة ذاك الصوت المحمل بكل أنواع النسائم، المضمخ بشتى أصناف الرقة والضياء، المزاحم لسحر القمر.. فيروز البهاء والحلم رغم عقود الزمن الرابضة على عمرها لازالت نبضا وحياة وجماليات محلقة في فضاء الفن العربي والغربي .. تغني لتهرب وتهربك معها من وحشة اللحظة.. من قسوة العمر.. من ظلم الأشياء.. فيروز تغني لتطير بك إلي مملكة الأحلام.. صوت فيروز يلزمه سماع خاص.. يلزمه إحساس خاص.. من يسمعها عليه أن يكون مدججا بتلك المشاعر المتلهفة الصاغرة لطغيان الأنوثة، لجماليات البراءة والأفراح المتفجرة من قلب الزمان والمكان.. فيروز أسطورة الحنين والحب والجمال.. لم تغن فقط ولم تشكل مدرسة فنية قائمة بذاتها ولا ظاهرة صوتية سحرت الألباب ولازالت، هي نسجت من فيروزيتها تراثا قدسيا سكبت فيه التجربة الرحبانية كل طقوسها وعبقريتها التي تكاملت مع الحنجرة الفيروزية لتبلغ أقصى مواطن البريق والتألق والخلود عبر آلاف الأغاني والعديد من الأفلام السنيمائية والعشرات من الأعمال المسرحية الغنائية والاستعراضية والحفلات الغنائية في كل بلاد العالم، ولازال الوهج الفيروزي يمد بإشعاع الفرح الموعود ويولد ذاك الشيء في قلوب عشاق الفن الفيروزي الذي لا يقوى على تحريكه ما نسمعه اليوم من أصوات وفن ملأ هواءنا وأيامنا بما لا لا نجد له وصفا.. والأكيد أن لا شيء ولا صوت ولا فن باستطاعته أن يسكت ذاك النور ولا ذاك الرجاء والسلام الذي يسكبه صوت فيروز في مهجة المتشبثين بمحرابها.