لا أستطيع في هذه اللحظة أن أقاوم رغبة الكتابة عن الروائي الطاهر وطار، لكي أعرض كغيري جوانب من علاقتي به كاتبا وإنسانا. وبقدر ما لا أستطيع أن أتنكر لجميل هذا الروائي والمثقف والإنسان عليّ، وعلى كثيرين من أبناء جيلي، أوأتنصل من علاقتي المشرفة به، هذه العلاقة التي امتدت منذ بداية تأسيس الجاحظية خاصة والتي خبرت خلالها صدقه وتفانيه ومروءته وروحه العالية.. ومن عجائب القدر أن علاقتي به ارتبطت بالعدد اثنين، فقد فزت بجائزة مفدي زكرياء المغاربية للشعر مرتين، وأصدرت عنده كتابين، وكتب عني مرتين، الأولى مقدمة لكتابي ”كتاب الأعسر” والثانية مقال مطول عن روايتي ”عتبات المتاهة”. وشاركت معه في ملتقيين مهمين هما ملتقى الأوراس للشعر العربي، وملتقى شعراء جائزة مفدي زكرياء المغاربية، الذي ضم أكثر من سبعين شاعرا من المتوجين بها من دول المغرب العربي.. يمكنني أن أسرد هنا كثيرا من المواقف التي عشتها معه من خلال تعاملي معه، واحتكاكي به في مناسبات ومواقف كثيرة، ويفرض علي الواجب المنطقي والأخلاقي أن أقدم شهادة مشرقة ومنصفة لا تشوبها شائبة مما يمكن أن يقلل من احترامي لذلك الرجل حيا وميتا.. وقد حاولت في هامش سابق أن أشير إلى دين الرجل علي وعلى الثقافة الوطنية برمتها.. علاقتي معه حكمتها ما ورثته من قيم البداوة التي تفرض احترام الكبير وتوقيره في حالي الإختلاف والإئتلاف.. لم يكن يهادن لا في المحبة ولا في الإختلاف، وهو من النوع الذي يسمو بخصومه إلى الأعلى، ولا يتركهم يسقطون في الحضيض، ولذلك فقد كانت صداقته شرفا بالنسبة لكثيرين، وكانت خصومته شرفا أيضا لآخرين.. لكنني الآن نفسه أجد نفسي مترددا في تقديم هذه الشهادة، لإحساسي القوي بأنها لن تضيف شيئا إلى ما قيل وسيقال عن الطاهر وطار بعد وفاته، فالكل يجمع على فداحة الخسارة التي منيت بها الثقافة الوطنية بموت هذا الروائي الكبير.. وليس لأحد أن يزكيه غير مساره الطويل مع الكتابة والنضال الثقافي المستميت، ويكفيه شرفا أنه جعل من الجاحظية ملاذا ليتامى الكتابة ومشردي المداشر والمدن الداخلية، ولم يتخذ لنفسه برجا عاجيا بعيدا عن هموم ومشاغل كتاب الأجيال اللاحقة لجيله، مثلما فعل غيره ممن بدلتهم الكراسي والأرائك.. ما أكثر ما يكتب هذه الأيام من شهادات عن وطّار، بعضها لكتّاب وأشخاص عرفوه حقا، ويمكنها أن تغني معرفتنا به، وتضيء جوانب لم نكن نعرفها عنه، وبعضها لآخرين لم يعرفوه، ولم يكن ليتردد في تكذيب دعواهم لو كان حيا.. وبعضها لآخرين كانوا يتطاولون عليه، غير مفرقين بين العداء الشخصي والخصومة الفكرية، وبين الحق في الإختلاف والحقد، وبينهما شعرة رفيعة.. كل هذا الفيض الكبير من المشاعر الطيبة التي لا يشك أحد في صدقها، كم كنت أتمنى لو كانت في حياته، ولم تأت متأخرة وبمناسبة رحيله. فهل يعلمنا موت الطاهر وطار أن نوسع الحياة بالطهر، ونتعلم مفردات المحبة بدلا من مفردات الحقد والشتائم والنميمة في حق بعضنا البعض، مختلفين مؤتلفين..