عادت أزمة مياه النيل لتطفو مجددا على سطح الأحداث بعد فترة من الهدوء تزامنت مع التحرك الكثيف للدبلوماسية المصرية في دول منابع النيل لتقريب وجهات النظر فيما يخص اتفاقية "عنتيبي" الخاصة بتقاسم مياه النيل ووقعتها خمس من دول المنابع، رغم رفضها من قبل دولتي المصب (مصر والسودان). بطل الأزمة الجديدة ، سد أثيوبي عملاق يسمى "جابي"، أكد خبراء شؤون المياه أنه يهدد تدفق مياه النيل الأزرق، أحد أهم روافد نهر النيل، ويشيد حاليا على نهر أومو، لإنتاج الطاقة الكهرومائية. ويصب نهر أومو في بحيرة توركانا التي تعتبر حاليا أكبر بحيرة صحراوية في العالم. ويعارض ناشطون إنشاء السد، مؤكدين أنه سيؤدي إلى خفض مستوى المياه في البحيرة الكينية من 7 إلى 10 أمتار، الأمر الذى سيؤثر سلبا على حياة 300 ألف شخص يعتمدون على البحيرة بشكل كامل في الحصول على احتياجاتهم المائية. يبلغ ارتفاع السد 240 متر، مع خزان يمتد بسعة 151 كيلومتر، ما يجعله ثاني أكبر سد في إفريقيا بعد السد العالي في أسوان. وبدأ بناء السد العملاق فى عام 2006، ومن المقرر أن يستكمل البناء في عام 2012، ومن المتوقع أن تبلغ تكلفة المشروع 1.4 مليار يورو، ما يعادل 1.76 مليار دولار، ويتم تمويله بشكل رئيسي من قبل بنك التنمية الإفريقي بعد انسحاب البنك الدولي من التمويل عقب احتجاجات من قبل المنظمات غير الحكومية. وتقول إثيوبيا إن السد سينتج نحو 1800 ميجاوات من الكهرباء، وأكدت أنها أجرت مسوحات لتقييم الأثر البيئي للسد، أظهرت أنه لن يعطل حياة أي من المجتمعات المحلية. وتعتمد مصر بالكامل تقريبا على مياه النيل، وتراقب عن كثب الأنشطة المتصلة ببناء سدود في شرق إفريقيا، خاصة أنها مهددة فعليا من تغير المناخ. بمقتضى الاتفاق الأصلي يحق لمصر التي ستواجه أزمات مياه بحلول عام 2017 أن تحصل على 55.5 مليون متر مكعب في السنة تمثل نصيب الأسد من مياه النهر التي تبلغ نحو 84 مليون متر مكعب. "مياه النيل لن تتخطى حدود مصر" من ناحية أخرى، وفي تصريحات أدلى بها على هامش افتتاحه لمحور صفط اللبن بالجيزة ، وفيما اعتبر رفضا جديدا قاطعا لمخططات إسرائيل الهادفة لنقل مياهه لصحراء النقب، أكد الرئيس المصري حسني مبارك السبت أن مياه النيل لن تتخطى حدود مصر ، متعهدا بعدم قيام بلاده بتزويد أي دولة بمياه من نهر النيل. وأضاف أنه أصدر توجيهاته للحكومة بالعمل على الاستغلال الأمثل لموارد المياه والتوسع في مشروعات تحلية مياه البحر واستخدام التكنولوجيا الحديثة لاستنباط أنواع جديدة من المحاصيل والتي يمكن أن تروى بالمياه المالحة. واعتبر خبراء مياه أن تصريحات الرئيس تتفق والقواعد الدولية التى تنظم استخدامات مياه الأنهار المشتركة، وتمثل تأكيدا على أن مصر لن ترضخ لضغوط دول منابع النيل أو الدول ذات المصلحة مع إسرائيل، للحصول على موافقة مصر على توصيل مياه النهر إلى إسرائيل. وكان مبارك أكد في تصريحات سابقة له أن الحوار هو السبيل لحل الأزمة بين دول حوض نهر النيل ، مطمئنا مواطنيه حيال هذه الأزمة بقوله "إن القلق فى هذا الخصوص لا مبرر له على الإطلاق". وأكد أن الحوار هو السبيل للتحرك مع دول الحوض وان مصر تتحرك تحركا هادئا مع هذه الدول ولفت الى أنه عندما يتم رفع مستوى الحوار الى مستوى قادة الدول فسوف يتم تجاوز العقبات الفنية التي حالت دون اتفاق وزراء الري والموارد المائية في الدول التسع، أعضاء الحوض حتى الآن. "جابي" يهدد كينيا أما كينيا، أول المتضررين من بناء السد، فقالت إنها ستجري تقييما مستقلا حول تأثيرات سد "جابي". وقال وزير الطاقة الكينى، كيرايتو مورونجى: "نريد أن نجري دراسة مستقلة للتحقق من نتائج الدراسات السابقة بشأن السد، ولهذا فإن كل المخاوف من قبل جميع الأطراف المعنية سيتم أخذها في الاعتبار". وأضاف مورونجى أن الحكومة الكينية ستجرى دراسة واحدة فى هذا الشأن، فيما سيجرى بنك الاستثمار الأوروبي دراسة ثانية، وستقدم النتائج للحكومة في ديسمبر المقبل. ويأتي قرار الحكومة الكينية بإجراء دراسات لتقييم تأثيرات السد، استجابة لضغوط محلية ودولية من قبل منظمات حقوق إنسان تحث الحكومة الكينية على محاكاة مصر والضغط على إثيوبيا لإيقاف بناء السد. وأشارت المنظمات إلى أن مصر هددت إثيوبيا بتحرك عسكري إذا أقامت أي سد يهدد تدفق نهر النيل. ويعارض برنامج الأممالمتحدة البيئي في نيروبي أيضا، إنشاء السد، مؤكداً أنه سيقلل، بشكل كبير، مستويات المياه في بحيرة توركانا، وسيؤدي إلى زيادة الملوحة فى البحيرة، وقتل أي غطاء نباتي فيها، وكذلك قتل صناعة صيد الأسماك. ونقلت صحيفة "المصري اليوم" المستقلة عن المتحدث باسم البرنامج، نيك نوتال، قوله: "أي خفض في تدفق المياه إلى البحيرة سيؤدي إلى زيادة ملوحتها وسيؤثر على أسماكها"، وأضاف: "بالفعل، ملوحة بحيرة توركانا أعلى بكثير من أي بحيرة كبيرة أخرى في إفريقيا، لأنها تقلصت على مدى 7500 عام، ولذلك أصبحت بحيرة منغلقة دون منافذ". وكانت الجماعات البيئية الكينية انتقدت الحكومة الكينية واتهمتها بالتضحية بحياة المواطنين الكينيين من أجل الإثيوبيين. وقالت رئيس جمعية أصدقاء بحيرة توركانا، وهى منظمة حقوقية غير رسمية، إيكال انجيلي: "لا أحد يستطيع أن يلمس النيل من الإسكندرية في مصر، وحتى منابعه في جينجا بأوغندا، ويمكن لمصر الذهاب إلى الحرب إذا تم اعتراض مياه النهر، ولكن لماذا تسمح حكومتنا بانتهاك حقنا فى المياه؟". وأشارت انجيلي إلى أن دراسات تقييم الأثر التى أجرتها الحكومة الإثيوبية أظهرت أنه سيتم حجب تدفق النهر تقريبا لمدة سنتين، وذلك حتى يتم امتلاء الخزان، ولكن الدراسة لا تتناول كيف سيؤثر السد على بحيرة توركانا. وأضافت أنجيلي: "حتى الإثيوبيين سيتأثرون سلبا من السد، فحوالي 200 ألف شخص يعتمدون على نهر أومو سيتركون مكانهم حول النهر دون مأوى". وحذر تقييم أجرته المستشارة الأمريكية أنتوني ميتشل، لصالح بنك التنمية الإفريقي، من أن انخفاض المياه في نهر أومو سينعكس سلبا على بحيرة توركانا، وعلى تركيبتها الكيميائية، وجاء في التقرير أن "البحيرة قد تنحسر وتصبح أكثر قلوية، ما يجعل مياهها غير صالحة للشرب". مصر وإثيوبيا وينحصر الخلاف الرئيسي في هذه الأزمة بين مصر واثيوبيا؛ حيث تصل لمصر 85 % من مياه النيل عبر النيل الازرق في الهضبة الاثيوبية وترغب اديس ابابا منذ عام 1990 في الاستفادة من هذه الميزة الجيوستراتيجية اقتصاديا في بناء سدود للتوسع في مشروعات الري وتوليد الطاقة إلا أن الخطر يكمن في أن تصبح اثيوبيا في وضع يسمح لها بالتحكم في كمية المياه التي تصل الى مصر وهو وضع سوف تعمل مصر على منعه بأية وسيلة. أما تأثير دول المنبع الاخرى فليس حيويا على مصر حتى إذا توسعت هذه الدول في مشروعات على نهر النيل الابيض فلن يؤثر ذلك على كميات المياه لمصر والسودان بنفس الدرجة كما هو الحال في السدود على النيل الأزرق. ووقعت أثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا، ثم كينيا، في 14 ماي اتفاقا جديدا حول تقاسم مياه نهر النيل على الرغم من مقاطعة مصر والسودان، ما أثار غضب القاهرة التي أعلنت أن الاتفاق غير ملزم لها. ورفضت الدول الخمس الموقعة على الاتفاق الجديد التراجع وقالت إنها تمنح دول حوض النيل الأخرى، وهي مصر والسودان وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية، مهلة سنة للانضمام إلى الاتفاق. وبعد ساعات من توقيع الاتفاق، أعلنت إثيوبيا عن افتتاح أكبر سد مائي على بحيرة "تانا"، والتي تعتبر أحد أهم موارد نهر النيل، وذلك في سابقة خطيرة تؤشر إلى نية دول منابع النيل في تصعيد مواقفها ضد مصر. وحذر خبراء مصريون في مجال المياه من خطورة إنشاء مثل هذه السدود على حصة مصر من مياه النيل، واصفين إنشاءها بالسابقة الخطيرة التي ستدفع دول حوض النيل الأخري إلى أن تحذو حذو إثيوبيا وتقوم بإنشاء السدود دون الرجوع إلى مصر. وأكدوا أن إثيوبيا كانت ولازالت، تقود تياراً يرفض التوقيع على أي اتفاق بشأن مياه النيل، لافتين إلى أنها تستند إلى أن نحو 85 % تقريباً من مياه النيل تأتي من أراضيها ولذلك فهي ترفض على الدوام التعاون والاتفاق مع مصر تحديداً وتصر على أن تحضر أية اجتماعات أو مشاورات لدول الحوض بصفة مراقب".