مفتاح السعادة التيقّظ والفطنة، ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة، فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة، ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة، ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية، ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة. ويكفي في ذم الغرور قوله تعالى: “فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور” (لقمان:33). وقوله تعالى: “ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرّتكم الأماني” (الحديد:14). فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من الشيطان. فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون. وأشد الغرور غرور الكفار الذين غرّتهم الحياة الدنيا وغرّهم بالله الغرور فهم الذين قالوا: “النقد خير من النسيئة“(1) والدنيا نقد والآخرة نسيئة، فهي إذن خير فلا بد من إيثارها! وعلاج هذا إما بالإيمان أو البرهان: أما الإيمان فهو أن يصدق بقوله تعالى: “ما عندكم ينفد وما عند الله باق” (النحل: 96). وقوله: “والآخرة خير وأبقى” (الأعلى: 17). وقوله: “وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور (آل عمران : 185). أما المعرفة بالبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس: “النقد خير من النسيئة”. فإذا كان النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير. فالكافر المغرور يبذل في تجارته درهماً ليأخذ عشرة نسيئة، ولا يقول النقد خير من النسيئة فيتركه. وإذا حذّره الطبيب طعاماً ما ترك ذلك في الحال خوفاً من المرض في المستقبل. فإن كان عشرة نسيئة خيراً من واحد في الحال، فانسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى مدة الآخرة، فإن أقصى عمر الإنسان مئة سنة، وليس هو عُشر عُشير من جزء من ألف ألف جزء من الآخرة، فكأنه ترك واحداً ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له. وأما قولهم “اليقين خير لك من الشك”، فهذا القول أكثر فساداً، لأن اليقين خير من الشك إذا كان مثله، وإلا: فالتاجر في تعبه على يقين وفي ربحه على شك، ولكنه يقول: إن لم أتجر بقيت جائعاً وعظم ضرري، وكذلك المريض يشرب الدواء الكريه وهو من الشفاء على شك، ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول: مرارة الدواء قليل بالنسبة إلى ما أخافه من المرض والموت. إن المؤمنين إذا ضيعوا أوامر الله وهجروا الأعمال الصالحة ولابسوا المعاصي فهم مشاركون للكفار هذا الغرور، لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد فيخرجون من النار ولو بعد حين، فمجرد الإيمان لا يكفي.