عاد الحجيج من رحلتهم الإيمانية الرائعة، فرحين بما أتاهم الله من فضله، آملين أن يكونوا ممن شملهم الله بعفوه وغفرانه، وأن يبقوا على رقيهم الأخلاقي، ولا يلوثوا صحفهم ثانية بأحبار الذنوب، بعدما عادت بيضاء كأن لم يُكتب فيها شيء. ويقع بعض الحجاج في حيرة من أمرهم بعد العودة، كيف يحافظون على حجهم؟ وكيف يستثمرون طاقتهم الإيمانية، ليستمروا في إصلاح نفوسهم، وضبط سلوكهم. ف''الحاج السعيد'' هو من يفوز في معركة ما بعد الحج؛ مع نفسه وشيطانه؛ فهي الاختبار الحقيقي. ولا يسمح الحاج السعيد بأن يتسلل إليه غرور الطاعة، بل يسعى إلى مزيد من التقرب إلى الله عز وجل، كأنه حصل على منحة ''إيمانية'' في الحج، لا يكتفي بعد العودة بما تزود به في رحلته، إنما يكافح من أجل المزيد من القرب. لا يعود لصحائفه السيئة، رغم مقاتلة الشيطان اللعين له، كي يفسد عليه مكاسب الحج، ويحرمه من أي فرصة للاستزادة، ويدفعه إلى التراجع اللعين. يخشى أن يقابل ربه، وقد حصل فرصة التطهر من الذنوب، ولكنه لم يحافظ على نصاعة الصفحة. يتوسل الحاج الأمل في قبول الرحمن بالكثير من الأعمال الصالحة؛ للتكفير عن أي قصور في أدائه لمناسك الحج، ومن منا لم يخطئ فيها، ومن منا أدى هذه المناسك كما يجب، وكما يليق بجلالها. فعلى الحاج تنمية الإحساس بالتقصير بداخله على ألا يكون ذلك سببا لليأس من القبول. ولكنه يكون دافعا مستمرا للإجادة في كل أمور الدين والدنيا، لتجديد التوبة والتطهر رغبة في كتابة اسمه بين التوابين والمتطهرين. يراقب الحاج نفسه عند أي تفكير يراوده أو تصرف يزمع القيام به، ويسأل نفسه: هل هذا يليق بحاج أكرمه الله بزيارة بيته الحرام؟ ويتذكر أن العبودية يجب أن تكون للخالق عز وجل وحده، ويضع أمام عينيه قول الإمام علي كرم الله وجهه: ''إذا وضعت أحدا فوق قدره فتوقع أن يضعك دون قدرك''. فمن الذكاء أن يضع الدنيا بكل ما تشمله من علاقات ومصالح وعواطف في قدرها، ويكون عبدا لله وحده، فلا يحزن ولا يفرح إلا على ما ينير له قبره فقط، وأن يعتبر الدنيا وكل حياته فيها مجرد وسيلة للفوز بالآخرة، فلا يتعلق قلبه إلا بالخالق عز وجل. وبذا يفوز بالسعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة أيضا. ويتأدب الحاج مع الخالق عز وجل، فيمتلئ قلبه بالامتنان العظيم والشكر البالغ والحمد المتنامي؛ لتفضله عليه بمنحه ''نعمة الحج''؛ في الوقت الذي تتطلع إليه أفئدة ملايين المسلمين، ويعجزون عن تحقيقه لأسباب مختلفة. ولا يكتفي السعيد بمشاعر الحمد القلبية؛ وإنما يقاتل لترجمة مشاعره إلى تصرفات وأفعال ومعان تنير روحه، وتهدي قلبه، وتنظف عقله من كل الشوائب في الدين والدنيا، ليتطهر ويغتسل روحيا وذهنيا قبل أن يغتسل جسديا. فالسعيد من يرَ في بيت الله وطنه، ويعتمد ''الإسلام'' جنسيته، ويتذكر أن المؤمنين أخوة، فيتسامى على التقسيمات الوهمية بين المسلمين على حسب أوطانهم، ولا يتعامل مع الأماكن المقدسة على أنه سائح. خط فاصل والسعيد حقا هو من يتعامل مع الحج على أنه خط فاصل لا رجعة فيه. ويبدأ بعد العودة حياة جديدة، يتطهر فيها من كل ما يغضب الخالق عز وجل؛ وألا يكتفي بترك الذنوب؛ بل ''يقاتل'' لفعل كل الخيرات. ولا يقع الحاج في الخطأ الشائع لدى بعض الحجيج؛ وهو الانعزال عن الدنيا والاكتفاء بالإكثار من الصلوات والصيام، وتناسي أن هناك من العبادات ما يفوقها أثرا. فقد وعد رسولنا الحبيب بأقرب مكان إليه من تمتع بحسن الخلق. إذ يتطلب حسن الخلق مجاهدة النفس، ومكايدة الشيطان، والتعامل مع الجميع بالخلق الحسن، وإتقان العمل إعمالا لقوله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105)، وأن تكون نيته في عمله الخضوع لمشيئة الخالق عز وجل، وإرضاءه بإجادة العمل، وإعطاء نموذج إيجابي للمسلم الحق. فأجمل ما يتحلى به الحاج العائد الحياء من الرحمن عز وجل في كل لحظة؛ وألا يجعله سبحانه وتعالى أهون الناظرين إليه، ويستمد من هذا الحياء طاقات إضافية، تعينه على مواجهة كل ما يكرهه من منغصات الحياة التي لا تخلو منها أي حياة بالطبع. فيتعامل بوعي وفطنة مع هذه المنغصات، ويضعها في أقل من حجمها، ويتذكر أن الحياة نفسها مرحلة مؤقتة للغاية، ومجرد وسيلة للآخرة السعيدة. فيتعامل معها وكأنها إزعاج يوم ممطر؛ فمن السخف جعلها مأساة وإطالة التوقف عندها. فيستعين بالله ولا يعجز؛ ويأخذ بالخطوات العملية للإجهاز على هذه المنغصات أولا فأولا أو تقليل آثارها بقدر الإمكان. وإن كاد يفقد روح ''المؤمن'' الجميلة، فليعد بذاكرته إلى تذكر ''الرحابة'' الرائعة التي نعم بها في أثناء الحج. عندئذ ستتراجع مشكلات الحياة، ويتمكن بعون الرحمن من الانتصار عليها، والاستفادة منها دينيا ودنيويا، وينصح غيره بكيفية تجنبها، فستصير لديه خبرات مواجهة الأزمات بفضل السماحة والتعقل اللاتي يكتسبهما من الحج. زاد الحجيج ويحافظ الحاج السعيد على رقة القلب، ويبتعد عن كل ما يؤدي إلى قسوته؛ من الإفراط في المخالطة والطعام والكلام، مع ضرورة التأمل يوميا في نعم الخالق، ومظاهر قدرته في الكون، وأن يسعى لزيادة رصيده من التوحيد والإخلاص وحسن العبادة، وزيادة معلوماته الدينية من المصادر الموثوق فيها، وعدم الاكتفاء بما يعرفه. فالإيمان إن لم يزد ينقص، والتفقه في الدين يزيد من حب المسلم لدينه؛ وتوعيته بواجباته الدينية، وفطنته إلى ضرورة أدائها بكل حب واحترام وخضوع، وتأدب مع الخالق عز وجل، والامتنان التام له سبحانه وتعالى، والشكر العميق له على تفضله علينا بنعمة الإسلام، وحمايتنا من الضلال والكفر والشقاق وسوء الأخلاق. والحاج السعيد هو الذي يسعى للتصبر والتحلم ويمرن نفسه عليهما، وهما صفات يحبها الرحمن الرحيم، وهو الذي يجدد في كل صلاته الإحساس بنعيم الطواف، والتطهر من كل الذنوب، ويتذكر الكعبة المشرفة، وزيارة الرسول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، ولا يكثر من الحديث عن روحانياته؛ حتى ينأى بنفسه عن شبهة الرياء، ويحتفظ بشحنته الروحانية كاملة. وعلى الحاج السعيد ألا يتوقع تغير من حوله بعد عودته من الحج، ومواكبتهم للتغيير الذي حدث له، ولا يضيع ثانية في الألم من مواقفهم، بل يدخر طاقاته لتحسين نفسه أولا دينيا ودنيويا، بدلا من إهدار الطاقة في إلقاء محاضرات عقيمة، وتسول المساعدة منهم؛ فأفضل مساعدة هي التي يمنحها الإنسان لنفسه بعد لجوئه إلى الخالق عز وجل. وليردد الحاج في نفسه دائما الثناء والحمد لله: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يا الله، سبحانك ما ذكرناك حق ذكرك، سبحانك ما قدرناك حق قدرك، سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ويسعى دوما لتقليص هذا التقصير قدر طاقته، ويستعين بالخالق عز وجل دائما.