في اعتقادي الراسخ أن الرواية ليست تصفية حسابات شخصية وليست نسخة كاربونية من الواقع. أنا شخصيا أعتقد أن الروائي، وهذا من خلال تجربتي، هو أولا وقبل كل شيء، صانع الجمال والمدافع عن الجمال وهو نفسه ومن خلال سلوكه جزء من صورة هذا الجمال، أو على الأقل هكذا يريد أن يكون. وفي رواية "الذروة" كما في نصوصي الشعرية والنثرية الأخرى، لا تنفك الذّات المبدعة في حوار متوتر وبركاني مع الواقع، إنه الواقع الذي تصنعه هي وليس الواقع الذي يراه الآخرون أو يعيشونه ببرودة، وكثيرا ما تركز الذّات المبدعة الصادقة على الوهم كي تقول الحقيقة الصادقة أو التي تبدو لها كذلك. كل شخصيات رواية "الذروة" هي شخصيات من صنعي، أنا التي خلقتها كما أردت لها أن تكون، إنها تشبه عروسة القصبة التي نصنعها من قصبتين متعامدتين ثم نلبسها الألوان ونصنع لها سالفا ونجعلها تتكلم كل اللغات وترد على جميع الأسئلة، نصنعها فنتعلم منها، نصنعها فنعجب بها ونندهش لحديثها وجمالها وذكائها، وفي مرات كثيرة تتمرد الشخصيات عليّ فتشاركني في صناعة نفسها. ومفهوم فلسفة الصناعة هنا يختلف عن مفهوم الصناعة العقلانية الباردة، هي صناعة للخراب وصناعة التخريب الذي منه تطلع الحياة. في رواية "الذروة" لم أكتب سيرتي الذاتية، ولم أرُم الحديث عن أشخاص صادفتني الحياة الحياة بهم بعينهم ولحمهم وشحمهم، ولم يكن هم النّص تتبّع ظلّي الشخصي في الحياة، فالسيرة الذاتية لها قوانينها في الكتابة الأدبية، ولكن في الوقت نفسه لم أكن بعيدة عن ذاتي، لأن لا كتابة بدون ذات، فالذّات هي الحبر الآول والأعظم والأبقى الذي به نكتب قبل أن نرفع القلم الذي بإمكان الجميع استعماله. أقول إن رواية "الذروة" ليست رواية سيرة ذاتية ولكنها تتكئ على ظلال طفولة كنت قد لامستها، طفولة مضببة، ولكنها كنز لا يمكننا أن نستغني عنه، في هذه الطفولة التي جمعتها يوجد قليل من السيرة الجماعية لجيلنا ولكن بتخريب جمالي. رواية "الذروة" ليست كتابة مذكرات، فهي لا تنتمي ولا تريد أن تنتمي إلى ما يسمى بدفاتر اليوميات، مع أننا لا يمكننا أن ننفصل عن ذاكرتنا، وأعتقد أن مشروع الرواية الناجح هو الذي يتعدى الذكريات الصغيرة فيخونها ليخلق منها وهما لذاكرة جماعية ويصنع من بعض الذكريات المنتهكة في حقيقتها وغير الصادقة في واقعيتها، يجعل منها ذكريات مشتركة للجماعة والمجتمع. هذا المجتمع الذي يعيش الكاتب تفاصيله بجوانية وحساسية كبيرتين. كلما استطاع الروائي، أو تمكّن النّص الروائي من أن يكون مرآة يقرأ فيها الجميع وجوههم، فيقول أحدهم: هذا أنا.. إنني هنا، فأنا مثل هذه الشخصية، أو أن تلك الشخصية تشبهني، ويقول الثاني: ها أنذا في هذه الشخصية، و قول العاشر ويقول الألف: إن هذه الملامح هي لي أو إنني أشبهها في كيت وكيت، في مثل هذا الحال الذي تتحول فيه الرواية إلى مرآة لوجوه متعددة، يكون النّص ناجحا، وإذا ما تحول إلى مرآة فيها ملامح تحيل على الكثيرين وفي الوقت نفسه لا تحيل على أحد بعينه يكون قلق الكاتب في النّص قلقا وجوديا و تكون الذات في ذاتيتها جماعية أي تقتسم مع المحيط مشتركات كثيرة، وكلما قال أحدهم: هذه بلادي، وقال الآخر: هذه قريتي وقال آخر: هذا شارعي وهذه طريقة مشيتي وهذه أحلامي وكوابيسي، فإن الرواية تكون قد أدّت جزءا من مهمتها في الوهم الإبداعي الذي يتقاطع مع الواقع. في رواية "الذروة" لم أكن أريد أن أكون مؤرّخة، ولكن الرواية في كذبها على الواقع والحفر فيه، وفهمه، وفي إحراجها لهذا الواقع فإنها دون شك تظل جزءا من التاريخ، وهي بعض من التاريخ ولكن بطريقة الأدب (لغة ومقاربة) وليس بطريقة المؤرّخين (لغة ومقاربة)، وأنا أعتقد أن كثيرا من الروايات العاطفية والاجتماعية كتبت التاريخ أكثر دون أن يكون ذلك قصدها، بل وبطريقة أحسن وأصدق مما كتبه بعض كبار المؤرخين، لذا مازلنا نقرأ مدام بوفاري وهي رواية عن الخيانة الزوجية والحب ولكنها تظل تأريخا لتاريخ العاطفة في تلك المرحلة، وهو التاريخ الذي لا يدركه المؤرّخون، وتلك هي طريق الروائيين في كتابة التاريخ. رواية "الذروة" تنتمي إلى تلك النّصوص التي تحتفل بخيانة الواقع من أجل أن تفاجئه في أعصابه وكوابيسه وأحلامه. لقد قال العرب منذ القدم وهو طرح فلسفي عميق، على لسان الناقد والمنظر ابن سلام الجمحي: "إن أعذب الشعر أكذبه" وأنا أقول إن أعذب الروايات هي تلك التي تحسن الكذب حتى يتحوّل الكذب إلى مستوى من الحقيقة التي يعتقد بها وفيها الجميع، أي القرّاء، بما فيهم الكاتب نفسه. في رواية "الذروة" حاولت أن أكتب خيانة الواقع عن طريق سرد عنقود من الحكايات المتداخلة المتنامية التي تصب في الحكاية الكبرى الآم، حكاية النساء والرجال والأماكن، منذ ما هو أبعد من الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، منطلقا من إيماني أننا حين نتمكّن من القبض على وهج الحكاية بكل ما فيها من فانتاستيك فإننا نحوّل المحكي بكل ما فيه من مكذوب إلى شيء يتصالح معه القارئ ويعتقد بأنه جزء من حقيقته ولو كانت من الحقائق المعيشة في الأوهام والأحلام والرؤى و التطلعات. أومن دائما في كتابتي وفي قراءتي أن الأدب أرفع من أن نقزمه في تصفية حسابات، وحدهم "كلاب الحراسة" في إرهاب النقد غير الأدبي، يتشممون روائح النّاس في النّصوص الروائية دون قراءتها ودون التعمّق في فلسفتها، باحثين عن آثار الشبيه والمشبه به بقسر وهم يلوون عنق النّص على مزاجهم، ثم يصفقون بأيديهم وأرجلهم في بلاهة من يظن أنه امتلك الحقيقة. وهم في ذلك غير قادرين على السمو إلى الفانتستيك في الرواية وبالتالي يظلون في هوامشها ومحيطها بعيدين عن مركز فلسفتها.