عد مرور عام على الشرخ الذي أحدثته الأزمة الكروية بين الجزائر ومصر، يحق لنا أن نتساءل بصوت عال إن كان الوقت قد حان للمراجعة العقلانية، والجرد الدقيق لما انجرّ عنها من خسائر على أكثر من صعيد، بدءا بالجانب المادي إلى الجانب الوجداني المعنوي، المتّصل بالثقافة والأفكار والإبداع، وكل ما كان يجب أن يبقى بمنأى عن أي توظيف غير ذي معنى لأنه يمثل القيمة الرمزية لقيم الحق والخير والجمال التي تظل الغاية الكبرى لكل مسعى إبداعي وجمالي. لا أحد يستطيع أن يعطي تفسيرا دقيقا لما حدث بعد مقابلة "أم درمان" الكروية، ولا أحد يعلم بالضبط كيف انساق الجميع بلا ترو وراء حملة إعلامية لا مسؤولة أدت إلى مهاترات وملاسنات طالت أشياء صميمة تتعلق بالتاريخ والثابت، وما هو في حكم المقدس ؟.. ونحن نتكلم عما بدر من الكتّاب والمثقفين والمحسوبين على النخبة المفكرة من مواقف وتصريحات، من هذا الجانب أو ذاك، قد يقول قائل إن السقطة المصرية كانت مريعة جدا مقارنة برد الفعل الجزائري، ومهما يكن يجب التأكيد على أن صوت العقل قد كان مغيّبا تماما من هنا وهناك، غير أن التعميم يعد مغالطة لا تجوز، وجريمة كبرى، في حقّ كثير من النزهاء الذين فضلوا التزام الصمت كأضعف الإيمان، دون أن تكون لديهم الجرأة للجهر بآرائهم الرافضة لهذه "الهوجة"، لأن التيار العام كان جارفا بحيث لم يسمح بغير الآراء الهائجة المهيّجة، والعادية المستعدية.. لا أعلم بالضبط إن كان من خطّطوا لما حدث يدركون ما ستؤول إليه الأمور والحدود التي يمكن أن تنتهي عندها. لكن الأكيد أن الإعلام كان هو عقل وصوت هذه الأزمة، وأن البسطاء كانوا وقودها ورهانها، وقد نجح هذا الإعلام من الجانبين، في تمرير فكرة المقاطعة، التي كانت أكبر خطإ يرتكب لاسيما في المجال الثقافي الذي لا يمكن أن يحتمل هذا النوع من الممارسات حتى في أقصى درجات الاختلاف مع الطرف الآخر... المقاطعة في حالة الجزائر ومصر، هي تعبير عن العجز عن الإقناع وانسداد سبل الحوار وعدم الاحتكام إلى صوت العقل.. إن الاستمرار والتمادي في هذه المقاطعة يعتبر خطأ مضاعفا لأنها منافية لكل قيم العقل والنقل. لا بالنسبة للمصري الذي تربى على أحلام الثورة الجزائرية، ولا بالنسبة للجزائري الذي تربى على قيم مصر العروبة والحضارة والتنوير. لا يمكننا لاسيما نحن الذين تربينا على أفكار طه حين ونصر حامد أبو زيد ونجيب محفوظ والغيطاني وروائع أم كلثوم وعبد الحليم ويوسف شاهين وعادل إمام أن ننكر خسارتنا حيال ما آل إليه حال العلاقة بيننا وبين مصر، فنيا وثقافيا، والتي لا يمكن إلغاء تاريخها الممتد بجرة قلم. لا لأن هؤلاء الكبار مصريون، بل لأن الطبيعي والإنساني أن تكون علاقتنا بمصر سوية وجيدة. ومن المؤسف أن يغيب الفن المصري مسرحا وغناء وموسيقى وسينما عن مهرجاناتنا وفعالياتنا، وقد شكّل إلى عهد قريب جزءا من ذائقتنا وذاكرتنا، أو أن يمنع الكتاب المصري من الدخول إلى صالوننا الدولي دون سواه لأن "جلدة منفوخة" أفسدت للودّ قضية.. والأمر نفسه ينطبق على الفن والفكر الجزائري في مصر.. مقاطعة مصر خسارة لها، مثلما هي خسارة لنا، لا لأننا عاجزون عن إنتاج فننا، وتحقيق اكتفائنا الثقافي، أو عاجزون عن استيراد فنون الهند والسند والترك والشرق والغرب، بل لأن ذلك يشكل إقصاء لثقافة إنسانية، هي ملك للعالم بأسره، كما أن ذلك مناف لسنن الانفتاح والتثاقف.. إن البعد العربي في الفن والثقافة المصرية يجعل التيار الفرنكوفيلي هو الأكثر استفادة من هذه المقاطعة، لأنه سيترك الساحة فارغة أمام تأثيراتها وأفكارها التي بدت واضحة خلال الصالون الأخير للكتاب... غير أن الدعوة إلى مراجعة أنفسنا بنزاهة وتجرد، وإعادة النظر في علاقتنا بمصر ثقافيا يجب ألا تنسينا أن نكون أقوياء بأنفسنا دون تعصّب أو شوفينية، منفتحين على غيرنا، لا متأثرين ومستهلكين فقط، بل خلاّقين ومثرين للتراث الإنساني، طامحين إلى أن ننافس مصر في قوّة حضورها وحضارتها، دون عقدة نقص منها أو من غيرها.. وعلينا كمثقفين أن نتجاوز مرحلة الخوف من "التخوين" أو" الاتهام بالتطبيع" ونكسر حاجز التردد والخجل، في اتجاه إعادة التقارب الجزائري المصري ثقافيا، بمبادرة تكون أكثر قوة وتعبيرا من مبادرة الألف كتاب من قبل مكتبة الإسكندرية أو مبادرة الاحتفاء بالروائي الجزائري واسيني الأعرج. هذه المبادرة يمكن أن تتخذ شكل قافلة ثقافية أو لقاء مشترك بين مثقفي وكتاب البلدين، من شأنها أن تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، وتحول بيننا وبن ارتكاب نفس الأخطاء مستقبلا.. هل يعبر هذا الهامش عن آراء آخرين سواي، أم أنه رأيي أنا وفقط، ولا يلزم أحدا سواي.. لست أدري.. أحمد عبدالكريم