لا يختلف اثنان حول أفضلية مهنة التجارة إلى حد ما عن المهن الأخرى من الناحية المادية، خاصة إذا توفرت مجموعة من الشروط المنطقية المرتبطة بقواعد السوق. ولكن العملية التجارية بين الزبون والبائع مبنية على معايير الثقة المتبادلة بينهما البائع أمام تمادي المواطنين التي قد تتلاشى بفعل تقصير المشتري عن تحصيل الحقوق المادية للتاجر قبل أن يقع هذا الأخير في دائرة الإفلاس، خاصة أنه تم تسجيل مع بداية السنة الجارية زيادة في مختلف الأسعار. يبدو أن التركيبة الاجتماعية لكل أسرة خلقت ذهنيات تتقاعس في استيفاء حقوق الآخرين، وأبرز ما أضحى يواجه أصحاب المحلات التجارية، خاصة عبر قرى ومداشر ولاية البويرة، كقرى اولاد بوشية و أولاد بليل و ذراع الخميس الواقعة شمال عاصمة الولاية، مشكلة الاقتراض. فعلى غرار الأزمة المالية التي تسببت في ركود اقتصادي لم يشهده العالم من قبل، فإن أحد بوادرها كانت بفعل منح البنوك لقروض بدون وجود ضمانات، ما انعكس سلبا.. وإن كان البون شاسعا بين الطرح العالمي والمحلي لظاهرة البيع بالاقتراض، فإن المنطلق واحد وهو الاقتراض والنتيجة أحيانا واحدة وهي الإفلاس. ولتسليط الضوء حول ما يعرف بالعامية “الكريدي”، أو الاقتراض، تقربنا من بعض تجار بلدية عين بسام الواقعة على بعد حوالي 25 كلم غرب عاصمة ولاية البويرة، لاستقصاء حقائق الظاهرة التي أخذت أبعادا أخرى. توجهنا إلى السيد “ع.كمال” في عقده الرابع، حيث كشف لنا أنه كان يملك محلا للمواد الغذائية بإحدى المناطق النائية بعين بسام منذ حوالي 9 سنوات، ولكنه أوقف النشاط التجاري لتكبده خسائر بالملايين نتيجة عدم تحصيل الديون المترتبة على بعض الزبائن. ويضيف أنه لايزال يحتفظ بسجلات الأشخاص المدينين له، كما يوجد أحد الأفراد من المنطقة بلغت فاتورة مشترياته ذات الاستهلاك اليومي كالخبز والحليب والمواد الغذائية، 8 ملايين سنتيم، ولكنه لم يدفع إلا بضعة آلاف من الدنانير.. وهذا المبلغ الصغير لا يصل إلى تغطية رأسمال المشتريات، فقيمة الأرباح بالمواد الاستهلاكية اليومية ضعيفة وبعض الزبائن يتقاعسون عن دفع تكاليف المقتنيات لسبب أو لآخر. من جهة أخرى، يضيف محدثنا: هنا يدخل عامل البيئة المنغلقة التي يعيش فيها سكان يتعارفون فيما بينهم، وهناك انتهازيون يستغلون تلك العلاقة بحكم القرابة والجوار ليتمادوا في أخذ ما يريدون عن طريق الإستدانة، والاستحياء من طلب الحقوق المادية مرارا وتكرارا يجعلنا نتكبد خسائر فادحة. وبالإضافة لكون المنطقة مرت بأوقات عصيبة جراء الأعمال الإرهابية، ومن بين الضحايا كان معيل إحدى العائلات أمام الظروف المادية المزرية التي مروا بها كنت لا أطالبهم بتسديد ديونهم، وفي الأخير وجدت نفسي أمام خيار وحيد هو التوقف عن هذا النشاط التجاري والتوجه إلى مزاولة مهنة البناء. وعندما سألناه عن سبب عدم توجهه للعدالة لأجل استرجاع مستحقاته رفض ذلك لرؤيته أن هذا المشكل لا يحل بهذه الطريقة. بينما كان لبعض التجار رأي آخر في حل معضلة الاستدانة، حيث دخلنا محلا لبيع الهواتف النقالة، إذ علق صاحبه لافتة تقول بالحرف الواحد “إذا كنت لا تملك حق الفليكسي لا تفليكسي والمكالمة فلا داعي لإجرائها”.. تعليق مثل هذاجاء بعد مرور إبراهيم بتجارب مضنية مع الزبائن الذين أرهقوه في تسديد ديونهم فكانوا يغيرون الطريق تجنبا لملاقاته، ولم يتوان في الاتصال بهم من حين لآخر لطلب أموال تعبئة الهاتف النقال.. فبعض الشبان مدمنون على إجراء الاتصالات الهاتفية مع خليلاتهم.. وهم يعانون من البطالة! تجار جملة على خط النار مع الدائنين على غرار ما يعانيه تجار التجزئة من مشاكل تحصيل الديون، فإن نفس الإشكالية يواجهها تجار الجملة عند تسويق بضائعهم لبعض أصحاب المحلات الذين يتأخرون في دفع ثمن السلعة، وإذا دفعوها فإنهم يقدمون مبالغ قليلة لا تستوفي ديونه بالكامل. وقد أفصح لنا بائع، عند صاحب محل لبيع الأدوات المدرسية بالجملة، في عقده الثالث، أنه وصاحب المتجر على خط النار مع الزبائن الذين لا تقل مشترياتهم عن العشرين مليون سنتيم في الطلبية الواحدة، لكونهم يمتلكون مكتبات تعمل أيام الدخول المدرسي، فإن اغلبهم يشترون ويكون دفع ما عليهم من ديون بعد تسويق السلعة، فاليوم بلغت الديون حوالي العشرين مليونا نتيجة لشكاوى الزبائن الدائمة من حدوث كساد بالسلعة. أما محل آخر لبيع المواد الغذائية بالجملة فهو في مواجهة دائمة مع أصحاب موزعي البضائع المختلفة بالجملة من قارورات العصير والبيض وغيرها.. فقد اقر لنا أحد المقربين منه أنهم يتهربون بشكل كبير منه ولولا وضع هذا المتهرب أمام الأمر الواقع لما كان سيسدد ديونه البالغة 75مليون سنتيم، حيث كان دائم التهرب من صاحب الأموال الذي يأتي من الغرب الجزائري، وتحديدا من ولاية وهران، لمحاولة استرداد حقوقه ولكن المدين قام ببيع شاحنة نقل البضائع لأجل ذلك.. فحوادث كهذه أصبحت ظاهرة يومية أفضت إلى الإفلاس وتغيير النشاط. ولتلافي حدوث الأزمة كان رأي الدين الإسلامي واضحا، وله إيجابيات يجب الإقرار بها في عصرنا الحاضر، كونه ينظم المدفوعات المالية، حيث يتم الدفع بالتقسيط ونشوء فرص تبادل تجاري بين أطراف متباعدة مكانيا وغير ذلك، ولكن قد تتحقق مفاسد كبيرة في حال ضعف المسؤولية والتوسع غير المبرر في الإنفاق وعدم الاستقرار وتفاقم الأزمات الاقتصادية، لذلك جاء الأثر النبوي ليبين مدى خطورة الوقوع في فخ الديون.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه”. وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: “من أتى يوم القيامة بريئا من ثلاث دخل الجنة.. الكبر والغلول والدين”. إسناده صحيح. وبالإضافة للسعي المباح في طلب الرزق فقد أوضح النبي الأكرم في حديث يقوله المؤمن ضمن أدعية الصباح والمساء تغنيه عن الدين، فعن أنس رضي الله عنه أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من قول”اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال”. فالإسلام وضح سلبيات وإيجابيات الديون، ولكن تبقى إشكالية الأخذ بالحكم الذي لو تم لما كان الصراع دائرا بين الزبون والتاجر وبين تاجر الجملة وبائع التجزئة..