تجددت المظاهرات في تونس العاصمة، صباح أمس السبت، وخرج عشرات الآلاف من رجال الشرطة بالزي المدني والزي الرسمي للشرطة في مظاهرة عارمة جابت شارع بورڤيبة في قلب تونس. وعبر رجال الشرطة في هذه المظاهرة عن انتمائهم إلى ثورة الشباب وتنصلهم من تهمة الدفاع عن النظام الفاسد الراحل مع بن علي وعائلته وقال المتظاهرون في شعاراتهم إنهم كانوا ضحايا (مثل الشباب الثائر) لما أسموه بعصابات الحكم الظالم في وزارة الداخلية الذين أجبروهم على استخدام العنف ضد المتظاهرين. وطالب المتظاهرون بأن تفرج وزارة الداخلية عن أسماء الضحايا الذين سقطوا في هذه الأحداث وعددهم زهاء ثمانية أشخاص، وأن يعتبر هؤلاء شهداء مثل الشباب الذين سقطوا في المظاهرات ومثل عناصر الجيش الذين سقطوا أيضا في المواجهات مع الأمن الرئاسي على مشارف القصر الرئاسي. ويبدو أن المظاهرات الشرطوية هذه جرت على خلفية أن الحكومة المؤقتة وعدت بإجراء تحقيقات جدية في التجاوزات التي حدثت أثناء الأحداث والتي ينسب معظمها إلى رجال الشرطة، الذين أحسوا بأنهم ظلموا مرتين: مرة من طرف النظام الذي استخدمهم ضد الشعب، ومرة أخرى من طرف العهد الجديد الذي يريد أن يحاسبهم على ما قاموا به باسم النظام ضد المتظاهرين. لهذا، طالب المتظاهرون بأن يحاسب فقط المسؤولون في وزارة الداخلية، الذين أعطوا الأوامر باستخدام العنف ضد الشباب الثائر. وكانت جل الشعارات المرفوعة من طرف جموع الشرطة المتظاهرين طافحة بألوان الظلم ومنها مثلا شعار: "يا بوليس.. يا مقهور.. أترك عهد الدكتاتور" وشعار: "أبرياء من دماء الشهداء" وشعار: "لا ظلم.. لا رعب والبوليس ابن الشعب". وذكر وزير الداخلية في ندوة صحفية أن هناك حوالي 1200 شخص من الذين ارتكبوا أعمال عنف ضد الأشخاص والممتلكات هم الآن قيد التحقيق ومنهم 350 على الأقل تمت إحالتهم على العدالة. وحتى مساء أول أمس كان الحديث يجري عن عدم انضمام الشرطة إلى حركة الثورة والتغيير، لكن مظاهرة أمس السبت، تكون قد برهنت على التحاق سلك الشرطة بالثورة من خلال هذه المظاهرة التي كانت بالفعل مظاهرة لقاعدة الشرطة ضد قيادتها التي تتهم بتورطها في استعمال الشرطة في الدفاع عن النظام ضد الشعب. إن هذه المظاهرات تكون بالفعل قد عرت ظهر الحزب الحاكم أمام إرادة التغيير والمحاسبة وتكون هذه المظاهرات قد أدت إلى تقوية سلطة الجيش في صياغة مستقبل تونس. شيء آخر رفعه رجال الشرطة في مظاهراتهم وهو المطالبة بنقابة وطنية للشرطة. فقد صاح المتظاهرون أيضا في شارع بورڤيبة: "نظام حرية.. نقابة بوليسية" وتحدث المتظاهرون لوسائل الإعلام عما أسموه بالظلم الحاصل ضدهم على مستوى الأجور، رغم أن الرأي العام التونسي من غير الشرطة يتهم نظام بن علي بأنه حسّن أحوال الشرطة على حساب الجيش. وإذا كانت المظاهرات الجارية الآن في تونس تتسم بالسلمية وفيها تآخ بين الشعب المتظاهر والشرطة والجيش، فإن البلاد بدأت تعرف مظاهر أخرى من الاحتجاجات تبدو مقلقة، فهناك بعض الانفلات على مستوى المؤسسات الاقتصادية، بحيث استقوى العمال على المديرين بفعل هذه الأحداث، فكثرت الاحتجاجات بالمؤسسات والوزارات ووصلت حتى إلى طرد المديرين من مناصبهم من طرف العمال، وهو منحنى آخر تأخذه الأزمة في تونس ويوشك أن يتحول إلى فوضى. وأصبح المواطنون يطالبون بعودة الحياة إلى سابق عهدها، خاصة في مجال النقل والأسواق والتعليم، وبالفعل عادت بعض الأسواق إلى عملها الاعتيادي، لكن وسائل النقل ماتزال ناقصة بفعل الإضرابات والاضطرابات. فيما أعلنت وزارة التربية عن عودة الدروس في التعليم الابتدائي والثانوي جزئيا ابتداء من يوم الاثنين القادم، أي يوم غد، لكن بالنسبة إلى طلاب التعليم العالي فإن الحكومة المؤقتة لاتزال تدرس الوضع. وعلى الصعيد السياسي، بدأت الحكومة تنصّب ما أسمته بلجان الإصلاح السياسي ولجان تقصي الحقائق حول ما حدث في تونس، فيما لايزال اتحاد العمال يضغط في الشارع وبالبيانات من أجل الوصول إلى ما يسميه بحكومة إنقاذ وطني تعوض حكومة الوحدة الوطنية القائمة الآن. وموازاة مع هذا، حدث ما يشبه الانفلات الإعلامي؛ حيث يلاحظ المتتبع للأداء الإعلامي أن هناك مبالغات كبيرة في الحديث عن فساد النظام السابق. فقد خرج خبير اقتصادي ليقول للصحافة: إن ثروة بن علي تشكل 60 ٪ من ميزانية دولة تونس! وهو رقم لا يمكن تصديقه عقليا.. وقال أيضا إن الثروة المذكورة تعادل 10 ٪ من الناتج الوطني المحلي لتونس! ما يلفت الانتباه في الحالة التونسية أن بن علي الذي جعل من كل شيء ينطق باسمه عندما كان على رأس السلطة أصبح الآن لا يجد صوتا واحدا يتحدث عنه إلا بالسوء! وفي جميع الاحتمالات المطروحة على تونس الآن، فإن عودة الهدوء المطلوب يتطلب الانتهاء وبسرعة من حكاية تحديد من سيرأس تونس في الأيام القادمة. ولهذا يجري جدل حول ملامح النظام السياسي الذي تريده تونس، بعضهم يطالب بنظام برلماني لقطع الطريق أمام أي مستبد قادم، وبعضه يطالب بحسم صورة الرئيس القادم قبل بدء الحديث عن الانتخابات الرئاسية. وقد يؤدي انضمام الشرطة إلى دائرة الجيش والشعب المتظاهر إلى حسم الأمر في القريب العاجل، وعندها ستعود تونس إلى دائرة الهدوء. لكن تونس وهي تحسم هذه الأمور بخصوص مستقبلها السياسي تتحسس مواقف المحيط الخارجي الجواري الشمالي، الشرقي والغربي وتتتبع المواقف المختلفة لهذا الجوار بشيء من العناية الكبيرة.