لم أعد أخفي الحلم الذي أعلقه كالأغلال على صدري منذ شهور، تحديدا منذ اندلاع وهم داعر سماه الحمقى والمغفلون "الثورات العربية" ضد أنظمتها، وإن كنت إلى حد ما لا أبرئ الأنظمة من جبروتها المعتوه تماما كما لا أبرئ الشعوب من سقوطها في الغوغائية واللاجدوى، ولعل أحسن توصيف لغوي لهذه المحنة الشمطاء هو ما قاله أرنست مونستر "الطغيان يعدله الإرهاب". ولكن على ما يبدو أن العقل العربي لم يعد يتقن لا الطغيان ولا الإرهاب فهو يخبط خبط عشواء، ويضرب الأخماس بالأسداس في عته نادر وسافر لا يستند لذرة عقل، ولعل ما يحدث اليوم هو لوحة بلا ألوان لهذه الوضعية المخبولة، فمنطق التاريخ يقول "إنما العاجز من لا يستبد"، ها هي الأنظمة لم تعرف كيف تستبد فأبادت أركانها وأبدت سوأتها، وها هي الشعوب أيضا لا تعرف أبجدية الاستبداد - أقصد بالاستبداد هنا التموضع موضع القوة والسيطرة ومناهضة الخصم بسلاح العقل وفق نظرية التدافع - ولكن من أين لها العقل وهي تعلق خيباتها إما على القدر، أو على الحاكم الذي جهلها وجوعها واغتصب كينونتها وفي هذا كلام يطول كشارع البغاء العربي. لم أعد أخفي حلمي، وهو حلم "طوباوي" بلا شك، أنا أحلم متخففا من كل النواميس، متجردا من الوعي السكران، متطهرا بقذارة العصر، مصليا في محراب خطايا العقل، رافعا يدي لآلهة "اللامعقول"، وملتحفا وهم الطيبين والأطفال والعجائز، بأن يمن الله علينا بدكتاتور عظيم، شهم وكريم، نبيل وحليم، ذي عقل سليم، بالجبارين في الأرض أفاك أثيم، وبالبسطاء والضعفاء رؤوف رحيم، يعيد من حاد عن أصله إلى الصراط المستقيم، ويح قلبي من هذه السجعات التي خلقت من الآلام جبارا، يا قوم دخل سيدنا نيتشه وقال عابسا "الآلام المديدة والكبيرة تربي الطاغية في الإنسان" أتراها الأوجاع الغائرة في الروح من جعلني أحلم بالطاغية الدكتاتور، ولا يحلم بهذا إلا عبد أخرق أو طاغية، ولست منهما في شيء، ولكني متشبث بهذا الحلم الطوباوي إلى حين من الدهر يقضي بزوال سياسة "الشكشيكة" في بلد الأحرار. قال غر: وما سياسة "الشكشيكة" ، قال الحالم الواهم: هي تعني أن "كل طير يلغى بلغاه" أو "كيف رايي هملني، دير كيما تبغي"، قال الغر: ما فهمت من الأمر شيئا، وللطيور لغاتها، قال الحالم الواهم: سأبسط عليك من الخراب مثالا، لقد خطب فينا رئيس الجمهورية منذ أيام قليلة وأبدى للناس رغبة في إصلاح ما أفسد الدهر، مجد بعضهم النية في الخروج من عنق الزجاجة، ورأى آخرون أن دار لقمان ستبقى على حالها، وتحفظ آخرون طمعا في "خرطال" الحياة، ومن ضمن ما أعلن الرئيس عنه تدعيم قطاع السمعي البصري بمجموعة من القنوات، ابتهج بعضهم ورغب آخرون في كرم الرئيس ليفتح المجال للخواص، لكن بعض الساسة طلعوا من بعده يتأولون ويتألهون يشرحون غريب اللفظ في حديث الرئيس يزيدون عنه وينقصون، خرج وزير الإعلام ناصر مهل ليقول للجميع إن كثيرا من الناس لم يفهموا خطاب الرئيس وأنه لم يقصد أبدا فتح مجال السمعي البصري، وكم كان هذا واضحا في خطاب الرئيس، وطلع بلخادم فيما بعد ليقول إن السمعي البصري سيفتح عاجلا أو آجلا، والمؤكد أن كلاما آخر سنراه راقصا، وما أكثر القرارات التي اتخذها الرئيس أو دعا إليها راحت أدراج رياح التأويلات والمزاج والحسابات الأضيق من ثقب الإبرة لشلة من المسؤولين تعودوا أن يكونوا "شواكر" على البلاد والعباد - وهنا كل مبررات الدكتاتور تصبح مقدسة -. لذلك وإن كنت من عامة الشعب ولم أنتظر في خطاب الرئيس ما يسد متعة البصر بالقنوات، فالحرية على أحسن ما يرام بدليل أننا نقول ما نريد ولا أحد يسمع، وانتظرت ما يسد رمق الناس هنا وهناك، ويحفظ كرامتهم من كيس حليب وزير التضامن وقفة رمضان، أعلن مجددا تمسكي بحلمي في أن يمن الله علينا بدكتاتور "افحل وكريم"، وإذا حدث ذلك فسأتوجه له بأمنية تقول "مولانا الدكتاتور.. إذا كان فتح السمعي البصري في الجزائر سيكون نسخة من تعددية الصحف فأرجوك ألا تفعل وسلام عليك".