سجلت كتب المناضل فرحات عباس، رقم مبيعات قياسي في بورصة الكتب هذه السنة وصلت نسبتها الثمانين بالمئة، حيث تلقى مؤلفاته إقبالا كبيرا من طرف القرّاء المتعطشين لمعرفة تاريخ بلدهم، خاصة ما تعلّق منها بالثورة التحريرية وهي مؤلفات رفعت اللبس والغموض عن حقائق بقيت مغيّبة عن جيل الاستقلال وسلّطت الضوء على الظروف الواقعية التي عاشتها الجزائر إبّان الثورة التحريرية. الجولة التي قادت "الفجر" إلى بعض المكتبات على مستوى العاصمة كشفت عن حقيقة تكاد تكون مطموسة لدى الجميع، مفادها أن القارئ الجزائري يهتم لأمر تاريخ بلده وثورته المجيدة على عكس ما يشاع عنه بأنه لا يقرأ سوى ما هو مستورد من الغرب أو ما تصنع منه الدعاية سلعة سريعة الاستهلاك. لكن الحقيقة عكس ذلك، فالمتتبع الدائم لحركية المقروئية في الجزائر يمكنه رؤية، وبكل وضوح، أن نموذج القارئ الجزائري ليس ذلك الذي يلهث وراء القصص البوليسية أو الروايات الرومانسية، رغم أن هذا لا ينقص من قيمة اهتماماته، بل هو أيضا منتقي جيد ومتتبع وفيّ وباحث حقيقي في كل ما له علاقة بتاريخ بلده وأن جيل اليوم لا ييأس من التنقيب عن وقائع بقيت محجوبة عنه لفترة طويلة. كتب فرحات عبّاس .. "لو بوتي بان" الاستطلاع كشف وبإجماع كبير أن حصة الأسد لمبيعات هذه السنة حظيت بها كتب "فرحات عباس"، وهو ما أكده علي باي عبد الرحمان، مسؤول مكتبة "العالم الثالث"، لأن نسبة 80 بالمئة من مبيعات السنة عادت إلى كتب المناضل دون منازع، فهذه الأخيرة استقطبت اهتمام معظم القرّاء وهو ما يدل - كما أضاف - على الاهتمام الكبير الذي يوليه القارئ الجزائري لتاريخ بلده وسعيه الحثيث لمعرفة ما عايشه آباؤه وأجداده مع الاستعمار الغاشم. ويأتي على رأس هذه المؤلفات "الشاب الجزائري" الذي نشر لأول مرة سنة 1931، الكتاب جمع فيه المناضل مقالاته التي كتبها أثناء تأديته للخدمة الوطنية والتي نشرت في جريدة "التقدم" ما بين 1922 و1930، وجّه من خلالها فرحات عباس رسائل شديدة اللهجة للسّاسة الفرنسيين والمستوطنين، على رأسهم بيرتران وجان سيرفييه. وقد تعرّض هذا الكتاب لضغوط كبيرة من الصحافة الاستعمارية لما تناولته المقالات من تهكمات على أفعال المستعمر ضد الجزائريين وردود على اتهامات صحافة النخبة الاستعمارية آنذاك ودفاعه عن الأهالي، وعن الإسلام والعرب، كما تطرّق الكتاب لقضية التعليم التي حرم منها الجزائريون أثناء الحكم الفرنسي بالإضافة إلى شروط الاندماج والمساواة دون التنصّل من تعاليم الشريعة الإسلامية. تعطّش القرّاء لمثل هذه المراجع الثورية يعكسه الاقتناء الواسع لكتاب "تشريح حرب" الذي سرد فيه المؤلف أدق التفاصيل المتعلقة بالاتصالات الخاصة بالتحاقه بثورة التحرير في ماي 1955 وكذا الظروف التي ساعدته في اتخاذ قرار التوجه إلى القاهرة للالتحاق بالوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني سنة 1956، بالإضافة إلى معلومات عن طبيعة الخلافات التي عصفت بأعضاء الوفد وشتتت قراراتهم فيما يخص كيفية تموين الثورة بالأسلحة، واحتلت قضية تصفية الحسابات أهمية بالغة عند فرحات عباس والدليل تخصيص هذا الأخير مساحة كبيرة لقضية التصفية التي تعرّض لها عبان رمضان والصراع الذي خلّفه ذلك بين السياسيين والعسكريين داخل الثورة. وتناول الكتاب أيضا ظروف إنشاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية التي ترأسها لعهدتين متتاليتين، وقد اعتبر النقّاد الكتاب بمثابة مرجع هام حفظ تاريخ الثورة التحريرية على اعتبار أن الكاتب عايشها واحتك بجميع تفاصيلها. ونفس الإقبال عرفه مؤلف "الاستقلال المصادر أو المغتصب " الذي نشر سنة 1984 بفرنسا لأن السلطات الجزائرية منعته وقتها واستمر قرار المنع ساريا إلى غاية التسعينيات، وتطرّق الكتاب إلى حقائق هامة حول الخيارات السياسية لما بعد الاستقلال، بالإضافة إلى الظروف التي أدّت إلى توتر العلاقة بين فرحات عباس والرئيس أحمد بن بلة والأسباب التي أدّت إلى استقالته من الجمعية التأسيسية (البرلمان) يوم 15 سبتمبر 1963 منتقدا خيار الحزب الواحد على اعتبار أن هذا الخيار يجعل من الجزائر بعيدة عن الديمقراطية لأنها تسير حسب رأيه على نهج دولة ستالين. وتؤكد صونبا، مشرفة على مكتبة الاجتهاد، أن كتب فرحات عباس، تُقتنى على حد تعبيرها كما يقتنى (لو بوتي بان) مشيرة إلى أن هذا الاهتمام لا يقتصر على أساتذة وطلبة التاريخ؛ بل يتنوّع بين مختصين في المجال وقرّاء ليس لهم اختصاص معين، وهو أكبر دليل على البحث الدائم للجزائري عن حقائق ثورته وسعيه الحثيث للتواصل مع تاريخ بلده وماضيه المجيد من خلال الكتب التي تؤرّخ له على غرار مؤلف "غدا يطلع النهار" أو كما يطلق عليه "الوصية" الذي نشر بعد ربع قرن من رحيله، لأنه تركه دون عنوان، خطّه الراحل وهو تحت الإقامة الجبرية التي فرضها عليه الرئيس هواري بومدين سنة 1976، عبّر فيه المناضل عن حالة الانتظار والظرفية التي كانت تعيشها الجزائر وقتها، لأن كل ما يدفع نحو الثورة تم تخريبه من احترام لحقوق الإنسان، الحريات الشخصية وكرامة المواطن، عودة الفلاح إلى الأرض، واحترام الملكية الفردية، كما عاد الكاتب من خلاله إلى تاريخ عائلته ومعاناتهم بعد طردهم من أراضيهم ليعودوا إليها كعمال بأجور زهيدة، كما تناول أيضا خطواته الأولى في المدرسة القرآنية والتحاقه بالمدرسة الفرنسية المخصصة للأهالي وزيف التاريخ المدرسي الذي كان يلقّن لهم. توقف أيضا عند السلوك الإسلامي في تبجيل المعلّم الذي جعله يكن الاحترام لأساتذته الفرنسيين، كما عبّر من خلال ما جاء في الكتاب عن تعلّقه الكبير بالوطن الذي أراد أن يمضي به آخر أيامه لكنه لم يخف من جهة أخرى ارتباطه بفرنسا التي لم يشعر فيها بالغربة مطلقا، وتأسف كثيرا لجزائر ما بعد الاستقلال. قام الباحث من خلال مؤلفه باستقراء التاريخ وتساءل عن مقومات الدولة الجزائرية التي لم يكن يراها خارج النطاق الشمال إفريقي، لأنه أصرّ دوما على أن التاريخ المشترك والإسلام هما ما يضمنان وحدة المغرب العربي- البربري. ودعا إلى العودة إلى القيم الحضارية والروحية للإسلام عن طريق الانفتاح على الغرب من خلال الثقافة العلمية واحترام الحريات الأساسية للإنسان. وشاطر بشير موظف بمكتبة "القرطاسية" رأي البقية بقوله إن التاريخ عاد من جديد ليفرض نفسه على الساحة الثقافية الجزائرية لتترسخ أحداثه في ذاكرة الصغير كما الكبير، وهو ما تناوله فرحات عباس في كتابه "ليل الاستعمار" الذي غاص في مجازر 8 ماي 1945 بسطيف والجزائر عامة، مؤكدا طابعها المبيّت والتآمر المسبق لها وعمليات الاستفزاز التي كانت السبب في تفجيرها، وما استهدف حركة "أحباب البيان والحرية" التي ألّفت لأول مرة بين الوطنيين والإصلاحيين ضمن آفاق استعادة السيادة والاستقلال، وقد اعتبر الكتاب نقدا ذاتيا وقاسيا لاستراتيجية الحوار التي انتهجها المؤلف بمثابرة وثبات إلى غاية اندلاع حرب التحرير الوطنية. قارئ يبحث عن الحقيقة بعيدا عن المنابر من جهتهم، روّاد المكتبات الأوفياء على غرار بعض الطلبة الذين التقيناهم، أكدوا لنا أن احتكاكهم المستمر بكتب فرحات عباس ساعدهم كثيرا خاصة في بحوثهم الجامعية وفتح لهم آفاقا واسعة جمعت من خلالها الحقائق وبلورت أحداثا ما كان ليُرفع النقاب عنها لولا مثل هذه المراجع التاريخية، كما أشاروا إلى دور الترجمة التي ساهمت في جلب جمهور أوسع من القرّاء. وحتى لا ينسى جيل اليوم التواصل مع جيل الأمس، يبقى التدوين الحل الأمثل لحفظ ذاكرة الشعوب وترسيخ فكرة الدفاع عن تاريخه والابتعاد عن التنصّل من كل ما له علاقة بالماضي ليتمكّن من الفصل بين الحقيقة والتزييف. وهو ما فعلته كتب المناضل فرحات عباس بجيل 2011 رغم التعتيم الذي عاشه المناضل قرابة ربع قرن في جزائر الاستقلال الفترة ما بين 1962 و1985.