أثناء الثورة المصرية في يناير وجهت إسرائيل انتقادات حادة للرئيس الأميركي أوباما بسبب إبداء دعمه وتأييده للثوار وضغوطه على مبارك لكي يترك الحكم ويتنحى، ولا شك أن خبرة الإسرائيليين بمصر وشعبها أكبر بكثير من خبرة الأمريكيين الذين لا يجيدون التعامل مع الشعوب ويتعاملون فقط مع الأنظمة الحاكمة. العرب وغروب الشمس الأمريكية سواء على المستوى الشعبي أو المستوى السلطوي في أنحاء العالم العربي والإسلامي لم يعد من المتصور أن تجرؤ إسرائيل على شن حرب شاملة برياً وبحرياً وجوياً على أهل قطاع غزة أو أي جزء آخر من أراضي الوطن العربي على نحو ما جرى قبل نحو ثلاث سنوات تحت اسم (الرصاص المصبوب). فما بين عام 2008 واليوم تبلورت تحولات كاسحة وحاسمة على المستويين الإقليمي والدولي أفرزت مناخاً جديداً تماما فما هي طبيعة تلك التحولات. وهل بوسع الأنظمة العربية استغلالها لشن حرب دبلوماسية ضد إسرائيل على أقل تقدير؟ أبرز وأهم هذه التحولات الكاسحة نهوض الشارع العربي كطرف مباشر في معادلة الصراع العربي الإسرائيلي من ناحية وانكماش الولاياتالمتحدة كقوة دولية عظمى تفرض إرادتها على العالم بأسره لتنفرد بالقرار الدولي. ولا يخفى أن هناك رابطة عضوية بين هذين التحولين الخطيرين. ذلك أن تدهور وضعف هذه القوة الدولية العظمى ينعكس سلباً على إسرائيل بقدر ما يضاعف من جرأة الشارع العربي ضد تحدي الأنظمة الحاكمة وحملها على تغيير بوصلتها وأجندتها السياسية. في الأسبوع الماضي نشرت صحيفة (معاريف) الإسرائيلية ملخصاً لتقرير إسرائيلي رسمي ورد فيه أن مصر حذرت إسرائيل من أن عملية عسكرية إسرائيلية واسعة النطاق ضد قطاع غزة ستشكل خطراً على السلام بين الدولتين وستؤدي بالتالي إلى قطع العلاقات بينهما. لماذا؟ على سبيل الرد على هذا التساؤل جاء في التقرير أن الحكومة الإسرائيلية تضع في الاعتبار أن الوضع الحساس السائد الآن في مصر بعد ثورة (25 يناير) سيؤدي إلى تصعيد الاحتجاجات في الشارع المصري ضد إسرائيل الأمر الذي سيدفع الحكومة المصرية حتما إلى التجاوب مع المطالب الشعبية وقطع العلاقات. بكلمات أخرى فإن الشارع أصبح الآن القوة الرئيسية التي تتحكم في مسارات السياسة الخارجية المصرية خاصة في إطار الصراع العربي الإسرائيلي. مثل هذا التحول الدراماتيكي لم يكن وارداً حتى كمجرد احتمال خلال العقود الزمنية الثلاثة الماضية من حكم الرئيس حسني مبارك. فمنذ إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية كان دور مصر ينحصر في حماية الأمن الإسرائيلي. ولذا فإن من المفارقة العجيبة أنه ترتفع الآن في مصر أصوات تطالب للمرة الأولى منذ نهاية عقد سبعينيات القرن الماضي بإلغاء معاهدة كامب ديفيد أو على الأقل إعادة النظر في بنودها بما يؤدي إلى تحرير مصر من دور الحارس الأمين لأمن الدولة الإسرائيلية على حساب السيادة المصرية. والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح في هذا السياق هو: إلى أي مدى تستطيع إسرائيل مواصلة اعتمادها على دعم الولاياتالمتحدة؟ للتعامل مع هذا السؤال التاريخي الكبير علينا أن نعيد إلى الأذهان أولا: أن النفوذ الدولي الأمريكي مبني على القوة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة. وثانيا: أن الدولة العظمى باتت تعيش الآن أزمة اقتصادية هيكلية هبطت بها إلى حضيض أكبر دولة مدينة في عالم اليوم، ما جعل الاقتصاد الأمريكي يدخل مرحلة عجز خطير لا يرجى فكاك منه في أي وقت قريب. وهكذا فإن النفوذ السياسي والعسكري للولايات المتحدة أصبح الآن في حالة تآكل. ويوماً بعد يوم تتعدد مظاهر التدهور السياسي الدولي لهذه الدولة التي لم تعد عظمى.. الأمر الذي أخذ يشجع دولا أخرى على تحديها في ساحة الصراع الدولي. من بين هذه المظاهر المتعددة صعود الصين وروسيا كقوتين مناهضتين للهيمنة التقليدية الأمريكية، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن الصين صارت أكبر دائن خارجي للولايات المتحدة في إطار مديونية أمريكية تناهز 14 ترليون دولار. والصعود الصيني يتلازم مع تنامي صعود ما يطلق عليه (دول الاقتصادات الناشئة) وأبرزها البرازيل والهند، وبالإضافة إلى قوتها الاقتصادية التنافسية، فإن هذه الدول أصبحت تشكل على صعيد مجلس الأمن الدولي ما يشبه جبهة معارضة سياسية ضد الولاياتالمتحدة بحيث إن المجلس لم يعد أداة طبيعية في يد واشنطن. وما يمكن أن يستخلص من ذلك هو أن العالم أخذ يتجه صوب تعدد قطبي بدلاً من هيمنة قوة دولية أحادية. ومن المظاهر الأخرى أن تركيا دخلت كلاعب دولي في مسرح الشرق الأوسط كقوة تتحدى إسرائيل باستقلالية كاملة عن الولاياتالمتحدة. بكلمة واحدة نستطيع أن نقول إنه لم يعد بوسع إسرائيل مواصلة المراهنة الاقتصادية والأمنية على الولاياتالمتحدة. ويبقى إذن السؤال الأكبر: هل يتوافر استعداد لدى الدول العربية أولا لاستيعاب هذه المتغيرات كتوطئة لاستغلالها في سياق الصراع العربي الإسرائيلي بإطلاق حملة دبلوماسية شاملة ضد إسرائيل. أحمد عمرابي