يعد نصيب الحصص الثقافية من البرمجة التلفزيونية ضئيلا جدا إذا ما قورن بعدد القنوات الجزائرية البالغ عددها خمس قنوات، حيث لم تتمكّن هذه الأخيرة من إعطاء الحقل الثقافي على تشعبه حقه الكافي من الاهتمام؛ غير أن الثقافة الجزائرية تتوسم في مشروع فتح فضاء السمعي بصري مستقبلا أفضل يضمن لها مشاركة أوسع بتخصيص الفضاءات الكفيلة بتقديم النقاشات الجوهرية والفعالة في الحقل الأدبي والسينمائي وكذا المسرحي كرهان جديد من رهانات الانفتاح على كل المستويات وبالدرجة الأولى الانفتاح على الثقافة الجزائرية التي يأمل أهل الصنعة أنّ تهتم بهم بشكل أكبر مما هو عليه اليوم.. غياب النُّخب عن تنشيط هذه الفضاءات ميّع أهدافها يرى الروائي الحبيب السائح، أنّ البرامج الثقافية الموجودة في الشبكة البرامجية الخاصة بالتلفزيون الجزائري والإذاعات الوطنية بمختلف محطاتها، لا زالت بعيدة كل البعد عن اهتمامات المثقفين والكتّاب والمبدعين الجزائريين، وهذا ما جعل هؤلاء يفقدون الثقة في هذه المؤسسات التي أصبحت تثير في نفسه وفي نفس غيره من الفاعلين في الحقل الثقافي، فيضا من الشجن على ما آلت إليه حال هذه الهيئة التي تحرق بالمال العمومي أعصاب من تبقّى من مشاهديها، فهي مؤسسة توزع، بعدالة اجتماعية وثقافية وفنية، كل أنواع الخجل واليأس من برامجها، من خلال سياسة غير عادلة في تسيير هذه الحصص والفضاءات التي تعنى بالثقافة والفنون والآداب، حتى أنه يخيل لك أنها مؤسسة يسيرها المزاج مقابل المنهجية، والهواية مقابل الاحترافية، والنفاق مقابل الصدق، والكذب مقابل الحقيقة، فهي كل شيء في عالم الاتصال بالصورة، إلا أن تكون قناة "بيتيماتها الأخريات"، تتحرك بنبض المثقفين الجزائريين وتتواصل معهم في فضاء حياتهم اليومية والإبداعية. وهو ما يصر على تأكيده الشاعر عيسى قارف، الذي يعتقد أن ما يعرض من برامج على القنوات الجزائرية هو تهميش للثقافة والمثقف الجزائري على حد سواء، خاصة وأنّ هذه البرامج لم تعالج بعد القضايا الثقافية بالشكل السليم الذي ينبغي أن تعالج به هذه الأخيرة كما أنه لا يستوفيها حقها كعمود من أعمدة المجتمع الجزائري. ويعترف من جهة أخرى أن هناك بعض الحصص التي تعرض بين الفينة والأخرى وتشير في بعض الأحيان إلى الثقافة، إلا أن ذلك - حسبه - لا يرقى إلى مستوى الحركية الثقافية التي تعنى بالكثير لتشعبها من أدب، شعر، مسرح وكذا الفن السابع ولم تتمكّن يوما من الإلمام بكل هذا الزخم الثقافي. وأشار محدثنا أيضا إلى أن الحوارات الثقافية الجريئة غابت عن الشاشة الصغيرة وغابت معها فضاءات النقاش الثقافي التي تمنح للمثقف الجزائري فرصة مشاركة أفكاره مع الغير، كما يشير الشاعر إلى أنّ مسؤولي القنوات الجزائرية تعودوا العمل مع وجوه واحدة تتداول على الظهور باستمرار فيما تغيب وجوه أخرى بإمكانها أن تعطي دفعا خاصا للحصص الثقافية خاصة وأن لها من الإبداع ما يسمح بإنعاش الحضور الثقافي على القنوات الجزائرية، مشيرا في ذات السياق إلى التهميش الذي يعرفه المثقف الجزائري والذي وصفه بالممنهج هدفه إقصاء النّخبة من المشاركة في تفعيل وجودها على كل المستويات إن كانت الثقافية، السياسية وحتى الاجتماعية. هذه الحالة جعلت الحبيب السائح يصر على القول أنّ هذه المؤسسة أصبحت مقطوعة كلية عن المشاهد الجزائري المتغرب في فضاءات أخرى، يجد فيها ضالته في متابعة الشأن الثقافي وغيرها من القطاعات التي تهمه، ما دامت هذه القنوات أصبحت عاجزة وفاشلة على تلبية احتياجاتهم في شتى المجالات الأدبية والإبداعية لدرجة أنه وفي الكثير من الأحيان يخاطب ذاته مازحا لما "التلفزيون الجزائري" يظل يهين بتلك "المفاسد" كل من حاول أن يتقرّب منه، فيقول لها "يا نفس، اعتبري أنه تم تخييرك بين أن تقضي أربعا وعشرين ساعة متصلة أمام "اليتيمة" وبين أن تصومي شهرين متتابعين كفارة على رفضك إيّاها. فماذا تختارين؟"، دون أن يجد إجابة شافية عن هذا السؤال الذي سيبقى يؤرقه وأهل الصنعة إلى أن يأخذ الهيئات المعنية هذه الإشكالية بعين الاعتبار وتفتح فضاءاتها المتعددة على برامج تليق بطموحات واهتمامات هذه الفئة، التي كانت في السابق تجد عدد من البرامج الثقافية التي تعنى بهذه الطبقة، كما ينوه قارف إليه. لكن هذه المنابر على غرار حصة "أهل الكتاب" لواسيني الأعرج، كانت تعاني من عدم الاستمرارية التي تجعل بريقها ينطفئ تدريجيا إلى أن أفلت نهائيا في وجه المثقف، وبمقابل ذلك يجد محدثنا أنّ القنوات الإذاعية أفضل بكثير من التلفزيونية من خلال تغطيتها للأحداث الثقافية ومناقشتها للقضايا الثقافية المهمة على الساحة الجزائرية. كما تمنح الفرص للمثقفين الجزائريين لمشاركة الجمهور آرائهم كبرنامج "بيت القصيد"، الذي كان يعرض على القناة الثالثة والذي يعتبره قارف من بين الحصص التي المميزة التي تعنى بالثقافة، إلا أنه بعد ذلك لم يجد في القنوات الجزائرية من البرامج الثقافية التي ترقى إلى مصطلح الثقافة حتى وتستدعي المتابعة، ولعل غياب أهل الصنعة عنها تنشيط هذه الفضاءات ميعها وجعلها تقبع في الرتابة وتكرار. فضاءات ثقافية أخرى تستثمر في كتّابنا وتروج لأفكارها من خلالهم أما الروائي أمين الزاوي فيرى أن غياب الحصص الثقافية الثابتة عن القنوات التلفزيونية أو الإذاعية الوطنية، التي هي قادرة على جمع شمل الأدباء والكتّاب والمثقفين الجزائريين ومناقشة القضايا الأدبية والفكرية التي تشغلهم جعلهم يغردون خارج السرب دائماً لأن أعمالهم ونشاطاتهم وإصداراتهم لا تصل إلى الآخرين وفي المقابل لا تهتم هذه البرامج القليلة جداً بما يقدمونه وما يحصلون عليه من جوائز وتكريمات في الوسط الخارجي، في الوقت الذي ينتظر هؤلاء التفاتة خاصة من هذه الحصص والبرامج التي تعنى بالثقافة والأدب والفنون عندنا تسعى أطراف أخرى إليكم فتسيرهم وأفكارهم وفق ما تريد وترغب هي. كما يشير المتحدث إلى أن غياب إعلام الدولة عنهم يجعل جهات أخرى تستثمر فيهم وفي أفكارهم بالطريقة التي يريدون، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك، لهذا يأمل المتحدث أنّ تستثمر البرامج الموجودة على غرار برنامج "قرأت لك" و"مقامات"، في أفكار وأعمال كتابنا ومبدعونا بدل تكريس ما هو مكرس من قبل خاصة ونحن على بعد التنافس على السمعي البصري الذي سيجعل هذه الفضاءات الموجودة في التلفزة الجزائرية أو الإذاعات الوطنية على المحك، خاصة وأنها برامج قليلة ولا يهتم بها بالشكل المطلوب. وينفي أمين أن يكون المشكل في معدّي تلك البرامج بل في هامش الإبداع والحرية التي يتمتع به هؤلاء، وفي قلّة التسيير، ويمكن أن نستخلص ذلك من خلال القناة الإذاعية الثقافية التي استبشر المثقفون والفاعلون في الحقل الإبداعي بها قبل انطلاقها، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل كبيرة فيما بعد لكون التقاطها صعب جدا وهذا ما جعل الاستماع إليها ومتابعة البرامج التي تعرض عليها محصور بين العاملين فيها لا غير. الكاتب والشاعر حمري بحري كان له رأي آخر، فهو يعتقد أن الخلط الموجود في الحياة السياسية موجود كذلك في الحياة الثقافية لأن الأولى تنعكس على الوضع الثقافي وكلما كان الحراك السياسي غير فاعل في حياتنا الاجتماعية تكون الثقافة انعكاس لهذا الفعل السياسي وهو ما جعل حسبه البرامج الثقافية على قنواتنا الجزائرية هي حصص لا ترقى إلى تطلعات المشاهد الجزائري، لأن ما يبث في القنوات الأخرى العربية وغير العربية تقدم من الفعل الثقافي الذي يلبي رغبات المشاهد سواء كانت هذه الحصص تتعلق بالكتّاب أو المفكرين أو رجال السينما من فنانين وفنانات وغيرها من المجالات الثقافية المتشعبة. غير أن ما يلاحظ - حسب رأيه - في الجزائر هو غياب الحصص الثقافية المتخصصة في المجال الثقافي والتي تناقش المواضيع الثقافية بعمق وتتفاعل مع المشهد الثقافي بمعنى الكلمة. وأعاب من جهة أخرى على مستوى من ينشطون هذه الحصص على القنوات الجزائرية حيث قال إنه في كثير من الحالات يكون المشاهد أكثر ثقافة وأكثر علما ودراية بالموضوع المطروح للنقاش، ما يجعل الحوار عقيما ولا يقدم أي إفادة وجديد للمتتبعين الأوفياء للحركية الثقافية، واعتبر أن كون المتفرج في بعض الأحيان أكثر ثقافة من بعض منشطي الحصص الثقافية يجعل الأمر يوصف بالكارثة الحقيقية خاصة إذا كان المشاهد ملمًّا بأهم جوانب الموضوع ولا ينتظر سوى التفاعل الحقيقي والنقاش البناء. وأضاف أنه ما نرغب فيه كأفراد ومثقفين أن تكون هذه الحصص مبنية على رؤيا شاملة تحدد أهداف الحصص الثقافية بكل حيثياتها، لأن ما يعرض على القنوات الجزائرية اليوم يكاد يكون سطحيا يمر مرور الكرام على الحراك الثقافي بما فيه الأدب، المسرح والسينما وغيرها من النشاطات الفكرية التي تعرفها الساحة الجزائرية. غياب البرامج الفكرية.. الطامة الكبرى فيما يؤكد رشيد بوجدرة أن المشهد الثقافي بما تحمله الكلمة من معنى غائب تماما عن البرامج التلفزيونية الجزائرية، وما يعرض على هذه الأخيرة لا يرقى إلى أن يطلق عليه ثقافة وإنما يمكن أن يصطلح عليه ما يعرف بالثقافة الهجينة التي يوجد منها الكثير، والدليل غياب البرامج الأدبية إذ قال إنه لا يوجد ولا برنامج واحد يعنى بجديد الأدب والكتاب ونفس الشيء بالنسبة للسينما التي لم يخصص لها أي برنامج أسبوعي يعنى بتفاصيلها ومستجداتها وتبسيط العمل السينمائي للمشاهد، ومن ثمّة تقريب هذا النوع الفني وممثليه من جمهوره الذواق والمتتبع ولو ببرمجة أسبوعية لا تتجاوز الساعتين من الزمن يفتح خلالها المجال للحوار والنقاش حول قضايا تهم الفن السابع كما هو معمول به في كل أماكن العالم وعلى القنوات الأخرى، أو على الأقل العودة إلى ما كان معمول به في السابق عندما كان يخصص لهذا النوع الفني حصة خاصة تستضيف مختصين في الميدان وتقربهم من المتتبعين على غرار حصة "نادي السينما " التي كان يقدمها السينمائي أحمد بجاوي والتي استضافت كبار المخرجين الجزائريين والأجانب. وأضاف بوجدرة أن السؤال المطروح هو لماذا لا تستمر مثل هذه الحصص على القنوات الجزائرية ويتعمد وأدها في كل مرة، ولِمَ لا يفتح فضاء آخر يعنى بالفن الرابع وغيرها من أنواع الفنون خاصة وأن الإبداع متجدد والمحاولات موجودة، وقال "إننا لا نطلب المستحيل لأنه يمكن مناقشة السينما والابتعاد عن الأمور التي لا تتماشى أخلاقيا مع مبادئ مجتمعنا"، لكن الملاحظ - حسب رأيه - أنه حتى الأشياء البريئة الخالية من التجريح وكذا الأشياء الجميلة جدا التي لا تحمل أي إشكال لا يسمح بعرضها في القنوات الجزائرية. وأشار من جهة أخرى إلى الغياب الكامل للأدب والفكر من التواجد على القنوات الجزائرية وفي هذا الصدد قال بوجدرة إن ذلك بالنسبة له يعتبر طامة كبرى، فرغم أنه كانت في الماضي بعض الحصص التي نشطت حقل الكتابة، إلا أن ذلك لم يستمر فسرعان ما اختفت هذه الحصص عن المشاهد وكمثال على ذلك حصة "أهل الكتاب" لواسيني الأعرج سابقا. وأضاف أنه ربما يعاني القائمون على القنوات الجزائرية مشكلة اسمها الاستمرارية لأن أي برنامج يعرض ويبدأ في التواصل مع الجمهور إلا وسرعان ما يختفي. وأضاف أنه أن المشهد الثقافي على القنوات الجزائرية هو في مرحلة القفار فلا وجود لأي برنامج ثقافي يستحق المتابعة. من خلال هذه القراءة لواقع البرامج الثقافية في التلفزيون الجزائري والإذاعات الوطنية، يؤكد الفاعلون في الوسط أنها لا تزال بعيدة عنهم ولا تتسع للكم الهائل من الأنشطة الثقافية كما أنّ بعض هذه البرامج كما صرّح لنا البعض تستوعب أفكارا رجعية لا تخدم مصلحة الجزائر والثقافة الجزائرية، آملين أن يكون في المستقبل القريب برامج تخدم المثقفين الجزائريين والثقافة الجزائرية التي أصبحت منذ 2007 تأخذ حيزا واسعا من الاهتمام العربي والعالمي بها، وقد مكّنتها هذه السياسة الجديدة في قطاع الثقافة التي تشرف عليها الوزيرة خليدة تومي، من أن تكون في قلب الأحداث.