لا يختلف اثنان على خطورة الإعلام عامة والمرئي منه خاصة، بما فيه الإنترنت، غير أن التلفزيون يَظلُ الوسيلة الأكثر انتشارا بين الناس، لاسيما في الوسط متوسط الدخل والفقير، ولا يُستثنى من هذا حتى الوسط الغني، فهو الوسيلة التي تدخل كل البيوت؛ بطلب منا، أو تحت تأثير التطور العلمي، الحضاري، العالمي. إن الإيصال الإعلامي بين مختلف شعوب المعمور، لم يعد في إمكان أي كائن منعه، بل صار سلاحا؛ أخطر من السلاح النووي، لأن الأخير لا يستعمل إلا في حال نادرة الحدوث، وقد لا يستعمل إذا توازن الرعب، زيادة على كونه ليس في إمكان كل الدول امتلاكه، والتضييق على إيران خير مثال، بينما سلاح الإعلام في متناول الجميع، غنيهم، وفقيرهم، سيدهم، وعبدهم، ويكفي المرء بعض المال، لشراء الوسائل، ودفع مرتبات العاملين، ليكون هذا السلاح تحت يده، ويفعل به ما لا يمكن توقعه، وخير دليل على ذلك ما فعلته قناة تلفزيونية خاصة لا تملك من الإمكانات الا القليل في الرد على الحملة المصرية، ضد الجزائر، وأرعبتها، بل بفعل هذه القناة، خفت الحملة، خوفا من تضامن المغرب العربي كله ضد مصر، في مقابل مشرق عربي مستهجن للفعل المصري. يمكن فهم موقف الدولة الجزائرية من الإعلام المرئي الخاص، وعدم الترخيص به لكون الضوابط الذاتية غير متوفرة حاليا ، وفتح الباب على مصراعيه قد يؤدي إلى ما أدى إليه فتح الباب واسعا أمام الجمعيات السياسية، من فوضى لا ضابط لها. لكن غير المفهوم أن تغلق الدولة باب الإعلام المرئي في وجه الدولة ذاتها، كل هذه المدة، أي طيلة تسع وعشرين سنة دون أن تخدم أهدافها، وبرامجها، بل سياستها، في كل ما مر بها من ظروف عاصفة؛ كادت لولا لطف الله تأتي عليها من القواعد، وحين أنشأت الجهة الوصية قناتين: واحدة دينية المضمون، والأخرى باللهجات المحلية، وظل تحفظ الدولة من الدولة؛ يتلمس خطاه، يَمُد رجليه خطوة، ويتراجع خطوتين، إلى أن جاءت واقعة أم درمان، وما نتج عنها من هيجان مصري غير مقبول، ووجد الجزائريون أنفسهم أسرى قنوات غير جزائرية، كأيتام في مَأدبة، عندها سمعنا أن الجهة الوصية، بدأت تدرس مشروع إطلاق خمس قنوات، محتواها متخصص، وتبدأ بالرياضة، كل هذا جيد، وإن جاء متأخرا، ولكن ما هي الرؤية الإستراتجية كمحتوى إعلامي، وإطار بشري، وبنية عقارية (هياكل) مادية، منقولة، وثابتة؟. مازلت الإذاعة والتلفزيون الجزائري يقيمان في مقر من العهد الفرنساوي، بالعاصمة كهيأة رسمية للدولة الجزائرية ولم تُنْشَأ بناية أخرى، كمقر للإذاعة والتلفزيون، تعبيرا عن رمزية السيادة، بدلا من هيكل موروث عن الاستعمار، لا يرمز إلا لعهد مضى وانقطعت أيَامُه، ولا يدخل في مفاخر الدولة الجزائرية وإنجازاتها. لهذا تدعو الحاجة إلى بناء مقرات جديدة، كاملة المرافق، عصرية التجهيزات، تحمل من الرمزية السيادية، ما تحمل، وتدخل في مفاخر إنجازات هذه الدولة، وكذا كل هيكل موروث عن العهد الكلونيالي، مازالت الدولة تستعمله لإداراتها، حتى تعطي الإيحاء بسيادة الدولة المُنْجزة (كسر الجيم). وإذا بدأ هذا التفكير يأخذ سبيله الى الميدان، يكون علينا توسيع الرؤية الى إنشاء محطات إرسال في أغلب ولايات الوطن بمقرات مُعينَة على العمل، توظف هذا الكم من الشباب المتخرج من الجامعات في اختصاص الإعلام، والاتصال، ذلكم أن الدولة (الوزارة) فتحت باب التخصص في مجال الإعلام، والاتصال على مستوى ولايات (جامعات) من الوطن بعيدة عن المركز، الأمر الذي يجعل التوظيف قاصرا على الشمال، أو ما كان قريبا من المحطات القائمة في يوم الناس هذا، لاسيما بالنسبة للنسوة اللائي لا يُمكنهن الإقامة خارج ولايتهن، لأسباب موضوعية، على رأسها السكن، ثم أن المحطات التي قد تُنْشَأ عبر الولايات، تقرب الناس بعضهم ببعض، وتقوي اللحمة بينهم، بفعل ما تكشف من تنوع ثقافي تقليدي، وفنون محلية، الناس في غفلة عنها، وتراث قديم محصور في زوايا مظلمة لا يعلمه حتى بعض أبناء المنطقة التي ينتمي إليها ذلك التراث، كما تكشف المحطات التلفزيونية المحلية عن مواهب وطاقات، لو فتشنا عنها بالمال المباشر؛ ما حصلنا عليها، فتكون ساعة الحاجة خير رافد للمحطة الأم، وما فاجأتنا به الأيام مع مصر خيرُ واعظ ، فمن يضمن أن الحاجة إلى إعلام مرئي قوي؛ قد لا تتكرر، ففي ساعة الكوارث الطبيعية أفضل وسيلة للاتصال بالمواطنين، هي الإذاعة، وخيرٌ منها التلفزيون، بالإضافة إلى خدمة مشاريع الدولة في كل المجالات، سواءٌ الاجتماعية، أوالإقتصادية أو الثقافية، أو حتى السياسية، بما توجده من لحمة بين السياسي والمواطن. إن نقص الإعلام، كان دائما سببا، في حدوث البلبلة وسط الناس والخوف من توسع هذا الإعلام، يزيد من قوة الشائعات المظللة، بل يجعلها مصدرا يغطي على الحقيقة ولا تقف أمامه، إلا كما تصمد ريشة في وجه الإعصار. من ذا نُجْملُ القول، إن الرؤية الإستراتجية الشاملة يجب أن تتناول سياسية التوسع في نشر التلفزيون؛ أفقيا وعموديا بما يكفل الخدمة العمومية ذات النوعية والجودة، أما الاحترافية العالية، فتأتي بمرور الزمن، والحرية في العمل، والتكوين المستمر البعيد عن المحاباة، نتيجة تعدد القنوات، وما يدفع إليه هذا التعدد، من تنافس، يُرْغم الأشخاص الموكلة إليهم مهمة التسيير، على تجويد أدائهم، وإلا تنكشف سوآتهم. لعل حاجة الوطن إلى قنوات تلفزيونية متعددة أمام ما هو موجود عبر الفضاء، وقد قررت الدولة أخيرا تولي هذا الأمر بنفسها، بعد أن سبقنا جيراننا إلى هذا التنوع، ولكن لا بأس أن تأتي متأخرا خير من لا تأتي، وفي ذلك فالْيَتنافس المتنافسون، والقول بحاجة المواطن، لم يعد أمرا مطروحا للنقاش، إنما المطروح الأولوية والنوعية، والمحتوى. فبالنسبة للأولوية: أرى أن كل ما يعني الشباب له الأولوية في حدود المعقول كقنوات الرياضة، قنوات الأفلام والمسرح (حتى لا نضيق واسعا)، والطرب الراقي، ''ذوق محلي وغير محلي''، ثم القنوات التي تُعنى بشؤون الأسرة، والاقتصاد المنزلي، وتربية الأطفال، والتوجيه التربوي، والمدرسي، وما كان في هذا الاختصاص من شؤون الأسرة والمجتمع، يلي هذا قنوات التعليم حتى ندعم التلاميذ، لاسيما المقبلين على الامتحانات، ولا يكنون ورقة في يد من بات ليلهُ يحلم؛ ثم قرر في الغد أن يضرب عن العمل، وجعل التلميذ رهينة، للكل الحق في الاحتجاج، والإضراب ولكن بعيدا عن الإضرار بالتلاميذ، ثم تأتي القنوات الإخبارية، وتكون على نوعين: التي تعنى بالأخبار المحلية وحدها، وأخرى لا تبث إلا الدولية، كشأن هذا النوع من القنوات، ثم القناة البرلمانية حتى يعرف المهتمون بهذا النوع من الأخبار ما يدور في هذا المكان، وقناة أخرى لم يألفها الناس عندنا وهي قناة الشؤون العسكرية، وتتولى أمرها وزارة الدفاع لما لهذا الفضاء من نفع وتوجيه، يحل على مدار العام محل المعارض التى تقيمها هذه الوزارة الهامة، كما يمكنها جعل الشاب مقبلا على الجيش برغبة، بالإضافة إلى إكسابه الثقافة العسكرية العامة سواء ما هو في وطنه أو ما هو جار في العالم، ولعل شريطا تبثه هذه القناة، يكون سببا في اختراع عظيم، كما تكون متنفسا لأسر هذه القوة من قوات المجتمع، لتعرف بعضها عبر البرامج والحصص التي تسجلها، بالتعاون مع هذه الأسر الموجودة تحت رجال في خدمة الوطن، وحمايته. ولا ننسى في هذا الباب الدعوة الى قناة للتاريخ، وأخرى للثقافة بمعناها العلمي، والأدبي......الخ. وأما بالنسبة للنوعية فهي قنوات تتوجه إلى الشعب، وعليها مراعاة عاداته وتقاليده، وإعطاء الصورة الحقيقة عنه، لأنها قنوات تكون مشاهدة من قبل المجتمع الذي أنشئت من أجله، فهي تعمل لترقيته، وتقريبه من بعضه، كما هي قنوات تشاهد من قبل غير الجزائريين، وكل تقصير منها قد يشوه صورة هذا المجتمع وتتحول إلى وبال عليه. وأما المحتوى فهو إعلامي، تربوي، تثقيفي، تسييسي، ترفيهي، لرفع العنت عن هذا الشعب، حتى لا يكون عالة على غيره وإغنائه بثقافته دون منعه من الأخذ من ثقافة الشعوب الأخرى. كل ما يمكن إنشاؤه من قنوات تلفزيونية لتعويض النقص الحادث في إعلامنا المرئي لا يخدم الغاية الإستراتجية التي يَصْبُو إليها شعبنا، إزاء ما تقوم به دول وضعت نصب عينيها تنميه ثقافتها، ونقلها إلى غيرها من الشعوب ، للتعريف بنفسها، وحتى للتأثير في هذا الغير، والمعاناة التي أصابت الناس عندنا جراء الهيجان الإعلامي المصري خير دليل على وجوب بناء المنظومة الإعلامية الجزائرية، وتطوير الموجود منها من حيث الهياكل ووسائل الإنتاج، واليد العاملة المثقفة المتحكمة في تقنية العمل. كل هذا يُضاف إليه حاجة البلاد إلى قرية كاملة للإنتاج الإعلامي، فيها جميع المرافق التي تُسهّلُ العمل للعاملين في هذا الحقل، وتكون بمثابة المدرسة التطبيقية لكل منتسب جديد إلى الحقل الإعلامي، بل تكون مكانا لكل تعاون بين الجزائر، وغيرها ممن يرغب في ذلك. قد أعلن عن مشروع خمس قنوات، وهو خبر مشجع، خجولٌ، ولكنه يظل غير قادر على بلوغ المُنى ما دامت المرافق والهياكل غير مطورة وأمْكنة الإنتاج كأنها مستوردة من عصر سيدنا نوح، وتكفي نظرة إلى غرفة إذاعة أخبار الثامنة من الداخل في تلفزتنا حتى تُدرك الفرق بيننا وبين من نريد مواجهتهم؛ إعلاميا، على مستوى العالم العربي، فما بالُك بالغرب. مجمل القول، نحتاج للخروج من هذا التخلف في الإعلام المرئي، إلى التوسع في إنشاء القنوات المرئية؛ التي تغطي كل نقاط الحاجة الجزائرية، وتسُدّ الفجوات الموجودة في واقعنا الإعلامي، وتسترجع الكفاءات المهاجرة وتبني قرية الإنتاج الإعلامي، وكل حديث غير هذا، هو من باب السفه الجدالي، وتضييع المال، والوقت، على الحفلات ، والسهرات، التي إذا جد الجد، لم نجد أصحابها لصد الخطر عن الجزائر، بل من الذين كرمناهم من تحيز ضدنا، وكافأن