العقد شريعة المتعاقدين و"المؤمنون عند شروطهم" هاتان قاعدتان معلومتان عند الجميع ومحفوظتان لدى من يعرفون قيمة العهود لكن الحاصل في الجزائر أن كل عقد يتم إبرامه - في ساعة العسرة - لتسيير مرحلة انتقالية يتحول إلى حالة دائمة ويصبح هو الأصل ومع مرور الزمن يتحول إلى قيد يحد من حرية الأطراف المتعاقدة باختزال شروط العقد وبنوده وأهدافه.. ^ في نقطة واحدة غالبا ما تكون "تحصيل حاصل" بينما يتم إهمال بقية البنود بحجة أن الظرف غير مناسب لتجسيد هذه العقود أو تجديدها ولم نجد في الجزائر "ظرفا مناسبا" منذ الإستقلال إلى اليوم. هذه هي خلاصة فلسفة اللاّعبين على عامل الزمن: - إذا نطقت قبل الوقت كان جوابهم: هذا سابق لأوانه. - فإذا ذكّرتهم بأن الوقت قد حان ردوا عليك بالقول: لكل حادث حديث. - وإذا احتججت بعد فوات الأوان استنكروا احتجاجك وقالوا لك: هذه المسألة صارت من التاريخ ولا ينفع البكاء على الأطلال!؟ ولنضرب مثالا على ذلك بمسألة العقود ومدى الوفاء بها والتقيد "بحرفية" ما جاء فيها بناء على القاعدتين سالفتي الذكر فأعظم عقد بشري بين الناس - بعد المواثيق والاتفاقيات الدولية - هو الدستور لأنه "ميثاق" بين السلطة والشعب يقوم على أساسين كبيرين هما: - تفويض "نخبة" من أبناء الشعب لإدارة شؤون السلطة والمال بما يعود بالنفع على الجميع تحت رقابة سلطة شعبية هي صاحبة التولية والخلع. - تنازل كل فرد من أبناء الشعب عن بعض حقوقه غير الأساسية لفائدة المجموع تضامنا منهم وتكافلا بينهم يتحقق بهما طرفا المعادلة الاجتماعية التقليدية: إطعاما من جوع وأمنا من خوف. لكن هذه الثقافة السياسية غير موجودة عندنا ليقرأ كل واحد منكم دساتير الجزائر ويقارن بين ما تم عليه التعاقد (بإخضاع قوة الحق إلى سلطة مركزية مقابل ضمان الحرية والعدل والمساواة والكرامة للجميع) وبين ما هو حادث على الأرض. ثم يسأل نفسه: أين هذه العقود من الواقع؟ لقد تحدث أحد المفكرين الكبار عن عقود لا يلتزم بها الناس سماها "دساتير من ورق" وحينما تتحول الدساتير إلى مجرد مواد قانونية مكتوبة على ورق صقيل.. فمن باب أولى أن نتحدث عن "عقود من ورق" فالعقد - مهما كان نبل اللحظات التي تعاهدت فيها الأطراف الموقعة عليه على احترامه وإنفاذه على الأرض - لا تكون له أية قيمة إذا آمن الموقعون عليه ببعض بنوده وكفروا ببعض وعندئذ يصبح من الوفاء للتاريخ - ولمن راهنوا على أن يعم خيره الناس - أن يقوم من ينهي سريان مفعوله. لن أتحدث هنا عن العقد مع اللّه جلّ جلاله أو مع رسوله (عليه الصلاة والسلام) فذلك عقد معنوي فردي إذا انعقد عليه الضمير فإنه يدخل في فروض الأعيان: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" إنما أتحدث عن العقود الجماعية البشرية التي تقاس بمدى نفعها للناس وبما تحدث عنه واضعو "السياسات التعاقدية" ولعل أشهرهم ثلاثة: الأول هو الفليسوف الإنجليزي (طوماس هوبز) الذي تحدث عن واقع عمته موجة العنف والفوضى واتساع دائرة الحروب. والثاني هو الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) الذي بلور فكرة القوة النافذة سياسيا لتأخذ منحى اقتصاديا ليبراليا. والثالث هو الفليسوف الفرنسي (جون جاك روسو) الذي طور هذه المفاهيم في جوانبها السياسية والاقتصادية إلى سلطة اجتماعية. يجد فيها كل مواطن حقوقه العامة وحريته الخاصة وفق "عقد اجتماعي" واضح المعالم وملزم للجميع. لأن نفعه في نهاية المطاف يعم الجميع. سُقت هذه النماذج الثلاثة كأفكار تعاقدية عامة لأخلص إلى تصحيح مفهوم العقد الاجتماعي المتناغم مع نصوص القانون من أعلى وثيقة (وهي الدستور) إلى أدنى جهة يخول لها القانون إصدار المراسيم التنفيذية وهو ما سوف يكشف عن حقيقة "العقود الورقية" التي لابد من أن نعطيها قيمتها التشريعية وواقعها التعاقدي لنصنع بها ثقافة ديمقراطية تتعانق فيها الثقة بالوثيقة. إن الجزائر لا تعاني من فقر في النصوص وإنما تعاني من تآكل في منسوب الثقة بسبب غياب ثقافة احترام إرادة الشعب وتحويل النصوص إلى أوراق منتهية الصلاحية لذلك لا تجد في الجزائر إلاّ قليلا ممن يتحاكم إلى نص العقد الاجتماعي أو السياسي أو الإداري أو حتى الأخلاقي..لأن جُلّ ممارساتنا تخضع غالبا لمنطق "المصلحة" الظرفية التي تقدرها الإدارة حتى لو تعارضت مع تطلعات الجماهير فالشعب في نظر الإدارة غير راشد وغير ناضج وكل ما يريده هو فقط تحسين إطار معيشته أما الحرية والكرامة والمواطنة.. فلا وجود لها إلاّ في المواثيق والدساتير الورقية أو في بلاغة الخطب الرسمية.