هذه ليْست قصة إحدى بطلات مُعذبُو “طه حسين”، فَطَهَ حسين كان يصْنع بطلات بُؤْسِه كيْفما يشاء، ويُنْهِي مأساتَهنٌ كيْفما أراد، لا يَأْبَه إلا لما يثيره من عواطف في صدْر القارئ، أو ما يتلجْلج في قلب ناقد، وهي أيضا ليْست لإحدى بئِيسات “فيكتور هيغو”، فبئيسة هذا وجدَت مقهى ليلي تأوي اليه، ويدا، بعد ذلك، حنونة، ذاقت فيما سبَق بأس الفقْر، فآوتْها وأوْرثَتها. أما بئيستنا هذه، فلم تجد في مدينتنا مقهى ليلي واحد تأوي إليه، فمقاهي المدن أوْصدت أبوابها ليلا من عشرات السنين، ولم تجد يدا رحيمة تحْنو عليها، فقد تيبست الأيدي من قديم. قد يكون إسْمها نورة، أو زهرة، وقد لا يكون لها اسم، فحين وصل رجال الإسْعاف لم يجدوا بين الأسْمال التي ترْتديها شيئا يدل على هويتها، ولم يكونوا في حاجة الى أيدي كثيرة، ولا إلى نعْش لحملها،فقد قدِم رجل واحد لحملها بين يديه، كما تُحْمل باقة ورد لتوضع على قبر شهيد مجهول. كانت دون العاشرة ولا شك، وعلى ذراعي الإسْعافي تدلَت ساقاها العاريتان كقلميْ رصاص، وعلى جبينها البريء، تهَدلت خصلات شعر عسلي، في حين تجمدت في إحدى عينيها دمْعة أبت أن تسقط، أما العين الأخرى فلم تكن تبكي، لأنه هكذا فقط يبْكي البؤساء. في يدها اليمنى ضمَت قطْعة من فئة خمسة دنانير، ضمتْها كما تضم موْروثا مُقدسا، كانت تحْلم أنْ غدا سيطلع النهار، وغدا تشْرق شمْسه الدافئة، وأنْ غدا بقطعة النقْد هذه ستشْرب كاس حليب ساخن تزْدرِد به قطعة خبز تلْتقطها من حيث ألِفَت. كان المطر ينْزل ثلجا في غير موطنه، وعلى غير عادته، وكان الليل يبدو لها طويلا طويلا، وتجَمَعت تسْتدفئ، كأنما تخْشى صفْعة جنِي، وضعت يداها بين فخذيها النحيلتين، رفعتهما الى فمها تنفخ فيهما حينا آخر، وحاصرها برْد البلاط وبرْد عتَبة الباب الذي آوت اليه، وتمنَت لحظتها لو أنَ أحد العفاريت التي سمعت رواياتهم من أفْواه رُواد حديقة “صُوفيا”يطفح من الأرض، فيضُمها إليه عسى أنْ تجد دفئا فُقِد. ومن خلال ثقْب في باب الحانوت، كانت ترْمق أنواع الألبسة المزرْكشة والأغْطية الفاخرة، وتخيَلت نفسها كالعروس تلْبس من كل ثوب وعلى كتفيها ذلك الغطاء الفاخر المرسوم في وسَطه رسْم أسَد، وبعقلها البريء تمنَت لو كانت في غابة وحوش، ولو أنَ أسدا مرَ بها، فأشْفق على حالها، وبفرْوِه الناعم غطاها، فهي تعلم أنْ ليس لِلاَبس ربْطة العنْق فرْو كفرْو الوحوش. قبل منتصف الليل، وقد خلا الشارع إلا من مثيلاتها، تقاطع بِمقْربة منها رجُلان، قال أحدهما “المطر رحمة ربي”، ورد الثاني “عام زين الحمد لله”. ولم تفهم المسكينة كيف للمطر أنْ يكون رحمة، كيف لهذا الثلج ولهذا الصقيع أنْ يكونا رحْمة، وتاه فكرها، وعند ذلك فقط سقَطت الدمْعة، وعند ذلك فقط إمْتدت يدٌ رحيمة إسْتلَت من الجسد أمانة ورَحلت. وفي الصباح حين حمل جثمانها الإسعافي، كانت سبابة يدها اليسرى المُتدليَّة تُشير في كل اتِّجاه، كمُمثِّل للحقِّ العام فوق مِنصَّة، تشير إلى العابرين، أيُّ العابرين يكون قد كان لها أبا، وأيُّ العابرات كانت لها أُمَّا؟ قد يكون صاحب النُّطْفة أنذاك عابرا بجثْمانها ،وقد يكون مُتدثِّرا بلِحاف رُومِيًّ يغُطُّ في نوم عميق، أو يحْتسي قهوة دافئة، إزْدادت حلاوتها بمشْهد رذاذ المطر، وراء ساتِر زجاجي، وربما كانت سبابتها تُشير الى سيارات فاخِرة تمُر، وأوْداج حمْر منْتفخة، تنْفث دخان سيجار، وإلى عالم ظالم لم يتْرك لبائستنا حظ بائعة الكبريت، إذْ لم يَعُدْ بيْع الكبْريت من حظّ الصِغار. هذه ليست من نَسيج خيَال كاتب يُريد أن يبْتز دموع قارئ، إنّها قصة حقيقية، من أحد شوارع مُدننا، ضحيتها كانت نطْفة في منيًّ ظالم ، فأصبحت مضْغة في رحِم لم ترْحم، ثم كُسِيت لحْما في مجتمع لم يأبه، قصة حدثَت ولعلّها ستحْدث كلّما تقاطع إثنان، وقال أحدُهما للآخر غيْر ملْتفت “المطر رحْمة”، وردّ الثاني “عام زين إنْ شاء الله”، وكلّ عام وأهْل الدُثور بخيْر. [email protected]