الصوت المتميز يصوم عن الكلام، يشربه الصمت بعد مائة خريف من المطر، حفر العمق، فجر ينبوع النور الذي تحالفت عليه الظلمات، استحضر التاريخ، اغترف من معينه ثم فتح نوافذه وأبوابه للسماء، رأى رأي الدين يوم كتب المولد وتعمم بالجزائر وقال بكل صدق رأيه، هو ذا الشيخ العلامة عبد الرحمن الجيلالي الذي أضاء وما يزال يضيء يوم انتصب قامة وانتفض من زمن، هو ذا الجبل بتاريخه الراسخ، وهو ذا الأديب الذي امتلأ بالجزائر حتى النخاع. هل صحيح مائة سنة ونيف طويت صفحتها، هل تاريخ الجزائر العام اكتملت فصوله؟ وهل المسرح والمولد وليلة الشك غيب هلالها السحاب؟ الشيخ عبد الرحمان الجيلالي أحد الأعمدة التي ظلت تنير بعلمها وأدبها الجزائر، والجزائر العاصمة، هل هو يمضي بعد أن أعياه الزمن ولم تعد تقدر عيناه اللامعتان على استقراء التاريخ، الصمت يبقى دويه ينحدر في الكلمات، تبقى رنته حاضرة ليالي العيد والصيام، كما عرف عليه الانضباط الذي غالب به الزمن، وهدم بإصراره كل أسوار المرض ولم يشتك العجز.. لم يقعد إلى الفراش. عيناه ترصدان النجوم والكلمات، ويداه تجمعان المنثور من التاريخ لتتمم به مسيرة مواسم الانتصارات، احتفلوا بمائة سنة مرت على وضع رياس البحر في قمقم ورصدوه بكل طلاسم الاستعمار وقالوا ''أبدا يتسرب إليه النور''، ألقوا به في عمق الجهل حتى لا يتحسس التاريخ، لكن تناسوا أن المردة قد تنتفض دورن سابق إنذار كما البراكين. المدن الثلاث والقصة تكتمل، وكل العيون التي عصّبها الظلام استبقت النور كما الدم شريانا للحياة، والبحر الذي حمل التاريخ بين راحتيه ورياحه ما يزال يعزف ترنيمة المسار، والجامع الكبير الذي خصّه بالبوح وحكى له كيف كانت تأتيه الأمواج بين يديه، هي ذي ساحة الشهداء التي سموها بساحة السلطة تستحلف كتشاوة وسيدي رمضان، تصاعد زفرات القصبة لسيدي عبد الرحمن كما اللهب المتطاير في الرياح، ظنوها مجرد شرارة تنطفئ في مولدها ويجهضها الحصار، لكن صاح الفجر بكل أفواه التاريخ استجمعه من عمقه الممتد ليفضح كل زيف صنعوه، تاريخ الجزائر العام، تعمم كبقية فرسانه ألوية الفاتحين واستحضر طلائع عقبة وطارق ثم صلى صلاة الخوف وهو ينادي نداء الجهاد. لم يغب عن عينيه ابن شنب ولا ابن سماية، كلاهما علمه كيف يشهد للتاريخ، كيف يكتب الجزائر مدينة غير تلك التي يقولها الغاصبون. حكاية أخرى تكتب على باب عزون وبولوكين يوقعها رياس البحر وسلاطين المرابطين ومنبر الجامع الكبير. ثلاث مدن يكشف في حفرها عن أسماء، عن مجد قيل إنه أنهار، وعلى جناح الأثير يخفق جناح حمام يمتطي الهواء، يلهب كما السياط ظهور الجاحدين يقيم عليهم حد شهادة الزور وينتفض ذات خريف كشهرنا هذا، بعد أن تعبت فرس طارق من ربطها وكان عرسها يوم ذاك طارق وخالد. يرحل الشيخ عبد الرحمن بعد مائة خريف عاش فيها معزوفة الريح والمطر، وهو طفل يصّعد الى سيدي عبد الرحمن محتضنا لوحه وسورة الفتح، وفي أعلى القمة احتضن الجزائر وأضاء قنديله للبحارة العائدين بخبر البحر وهم يلوحون للمآدن بأيديهم. الشيخ عبد الرحمان الجيلالي تستحلفه مدينة تلمسان بالعودة ليشهد عرسها العالمي، ليكتب شيئا عن جوامعها وقصورها ليستقرأ مع المنصورة يومياتها، ليصعد مع القادمين الى العباد حيث الشيخ ينام. وذات عصر، وذات خريف تصفو شمس المدينة وينزل الإمام داره كما كان يأتيها كل موسم قرآن، لكن نزوله الأخير كان للوداع. احتضن لوحه وسورة الفتح والفاتحة وكما كان يصعد لسيدي عبد الرحمان لم ينس أن هناك شيخه الكبير الذي أبى إلا أن ينزل إليه ويمكث عنده، سيدي محمد حيث الخلوة وحيث يسبح النخل والحمام. رحم الله شيخنا وعالمنا ورأي الدين الذي صدح، رحم الله من أعاد التاريخ للتاريخ، وكتب المولد وقيد ميلاد المدن الثلاث، فكان مائة خريف وموسم مطر وينبوع نور وعينا طالما رصدت هلالا.