"لا أعرف.. أنا أصلا لا أعرف مبررا لوجودي في هذا المكان، فكيف أعرف الباقي؟ لو طلب مني العقيد أن أترك الكرسي لغيري كنت فعلت، أليس هو من فرضني؟ وُضِعت في هذا المكان برضاه، كان يمكن أن أذهب أيضا برضاه، أنا لم أفعل ما يؤذي هذه الأرض".. هكذا تحدث بن بلة في رواية واسيني الأعرج الأخيرة.. الرواية الصادرة عن كتاب دبي الثقافية لشهر مارس الفارط في 463 صفحة من الحجم المتوسط، والتي مُنع توزيعها في السعودية، يستعيد فيها الروائي واسيني بعض المواقف من حياة الراحل بن بلة، ويكشف عن جوانب من حياته وأسراره.. فبعض الأسرار لا يمكن البوح بها إلا لرواية. قبل ساعات من وفاة الراحل أحمد بن بلة، التقيت الروائي واسيني لعرج في بهو فندق الترقي لمدينة برج بوعريريج، وهو المشارك في الطبعة ال14 لملتقى عبد الحميد بن هدوڤة، سألته مازحة: أريد أن أعرف إسقاطات حول شخصيات روايتك الأخيرة ؟ وهل البطل الذي سميته "الرايس بابانا" هو أحمد بن بلة؟ ابتسم لبعض الوقت ثم قال لي:"نعم.. هو كذلك.. وتسمية الرايس بابانا كانت بالفعل موجودة، وطالما ناداه الشعب بهذا الاسم، لاسيما في سنوات الاستقلال الأولى وفي فترة حكمه البسيطة إلى غاية 1965، بالفعل لقد استعرت شخصه في كتابة هذه الرواية، ربما لم يكن البطل الأساسي ولكنه الخلفية التي بنيتُ عليها شخصية الرواية يونس مارينا". بعد ذلك سارعت لذكر بعض المواقف مثل الحياة مع الذبابة داخل الزنزانة، وكذا حادثة إدخال والدته لالا الزهراء إلى زنزانته، فرد عليّ واسيني:"نعم للأسف لقد حدثني أحمد بن بلة نفسه بهذه الحكايات.. ولكنه عاش متسامحاً مع كل شيء". لماذا إذن؛ اختار واسيني أحمد بن بلة متنا ًلرواية تحسبها من عنوانها حكاية غرامية، أو وصلة من وصلاته المريمية المشحونة بالحب والرومانسية، حتى وأنت داخل صفحاتها الأولى تتذمر منه لأنه اختار فرانكفورت مطلعاً مكانيا لبداية أحداث الرواية، فتردد في سردك:"يا واسيني كم صار يتعبنا البطل المثقف، والعالمية التي لا يمكن لجزائري في برج بوعريريج مثلا، أن يمررها في خياله بسهولة.."، لكنك بعد قليل تتفاجأ بوتيرة الأحداث التي ستحملك إلى سجن الرايس بابانا أو ءحمد بن بلة. لوليتا أو زمن الجزائر الأول.. وحميمد أو يونس مارينا أصابع لوليتا إذن، هو عنوان هذه الرواية، والجميع يعرف هذا الاسم الذي يحيلنا مباشرة إلى لوليتا فلادمير نبوكوف، وعشق الطفلة الصغيرة، هذه الحالة المستعصية على شرح تدخل أحداث رواية بطلها حميميد أو يونس مارينا، والغريب أيضا أن اسم حميمد هو الاسم الثوري للراحل أحمد بن بلة. البطل الكاتب الذي كتب عددا من الروايات منها "ذئاب العقيد"و"عرس الشيطان"، هذه الأخيرة التي هددت حياته وجعلت منه هدفا للجماعات المسلحة.. يونس يقطن فرنسا وتقوم على حراسته القوات الفرنسية، هي ذاتها التي حاربها والده قبل أن ينتهي عندما قررت القوات الفرنسية رميه من طائرة حربية. تسير بنا الرواية إلى آفاق سردية متعددة وتجعل من البطل الرئيسي يعيش في قصة حب مع النوّة ولكنه سماها لوليتا، لوليتا هذه ليست إلى عميلة تهدف إلى قتله ولكنها تقع في حبه، والنهاية جميلة وقاسية إلى درجة أنه لا يمكن منحها هكذا بكل سهولة. ولذا الرواية تنتظركم وربما ما ينتظرنا في هذا المقام جمع مقاطع بن بلة في الرواية ورصدها من أجل تفكيك محتمل لشخصية لطالما اخفت الكثير. في هذا المقطع يبين واسيني حادثة مؤلمة وقعت لأمه التي كانت تزوره في السجن: "- نتلقى الأوامر من جهة عالية، ربما كانت أقوى من العقيد نفسه، طُلب منا أن نعرّي لالة الزهراء كما تسميها، قبل دخولها إليك، فعلنا وزدنا من عندنا قليلا ليعرف الجميع صرامة العقيد، عند الباب، قبل إدخالها عليك، عريناها، رأينا جسدها المتآكل بفعل الزمن، تأملناها، تضاحك بعضنا، لا تستغرب، حواسنا التي نملك ماتت منذ زمن بعيد، وحلت محلها حواس أخرى شبيهة بحواس بعض الحيوانات التي لا سلطان لها على غرائزها، أغلبها من فولاذ، لا يحركها أي شيء، تبادلنا الدوران حولها، تشممناها، وهي تصغر وتضمر، حتى شعرنا بها تنتفي وتتحول إلى شيء وتنسى أنها كانت أم رئيس البلاد نهائيا، أغمضت عيناها على بكاء مر، شعرت بنفسها أنها أصبحت فجأة لا تساوي بصقة في الطريق، لاشيء، وهذا ما كنا نوده، تهديم الخصم في ثقافتا هو أن يشعر أولا أنه وحيد ولا شيء يحميه من العزلة والموت الأكيد، بعدها فقدت وعيها، لم تكن تهمنا لالة الزهراء في شيء بقدر ما أنها أمك فقط؛ ثم أدخلناها عليك وهي لا تستطيع أن ترى وجهك وتنظر إلى عينيك من شدة الخجل، كمن ارتكب جرم زنا المحارم، أنت لم تكن تعرف، ولكنها كانت تبدو عارية أمامك لا يستر جسدها إلا خوفها عليك، نحن لم نفعل شيئا سيئا سوى أننا قمنا بواجب ظل يؤرقنا تطبيقه بالشكل الذي يرضي العقيد". ولعل هذه الحادثة هي التي أبكت أحمد منصور في برنامج "شاهد على العصر" بحيث ذكرها له، وكما يؤكد واسيني أن بن بلة قد ذكرها له شخصيا، ولعل تقديمها الأدبي بهذه الصورة كان فظيعا ومؤثرا أكثر من كل الروايات السابقة، خاصة عندما يقول:"كمن ارتكب جرم زنا المحارم.." لذا يمكن اعتبار التوظيف الروائي للواقعة مثيراً وموجعا. الرايس بابانا والذبابة الأنس في جزء آخر من الحكاية يقول حميم داو يونس مارينا:"إنه رأى الرايس بابانا في مكان معزول لم يوضع فيه حتى القتلة، لكن هذا الأخير كان ذكيا فقد حارب الظلمة والعزلة والخوف بطريقته الخاصة، كان لا يثق في الحراس، قاوم العزلة بصحبة ذبابة صغيرة شاءت الصدف أن يلتقي بها في زنزانته، كان كلما وُضع الطعام أمامه خرجت من ظلمتها وخوفها وجاءت لتقاسمه طعامه وخلوته،.. تلعب برجليها وجناحيها ورأسها وعينيها الثقيلتين اللتين لا يحبهما كثيرا ولكنه تعود عليهما على الرغم من أن البداية لم تكن موفقة بينهما، نشّها كما تعوّد أن يفعل مع الحشرات غير المرغوب فيها، قبل أن يدرك أنه في حاجة إلى وجودها على الأقل لتملأ عليه سكونه، وتعطيه قناعة بالألفة".. وبهذه التعابير يوضح واسيني سجن بن بلة الذي دام لمدة 15 سنة، ثمان سنوات منها في السجن والباقي تحت الإقامة الجبرية.. ولعل التعلق بذبابة يعني فظاعة العزلة، ولكن واسيني لا يقف عند حدود العزلة ويذهب إلى الفقد.. فما رأيكم في فقد ذبابة يواصل واسيني قائلا:"كانت الذبابة رفيقه الوحيد في حفرة الموت، تعّود عليها لدرجة أنه كان دائما يتساءل ماذا لو تموت يوما ما؟" كذلك لتعرفوا أنه صار يناديها لالة مينة ويحدث أن يخاطبها بالعبارة التالية:"لالة مينة.. الفراش واسع، خذي لك أي مكان تريدين النوم فيه.. كانت لاله مينة هي من خفف على الرايس بابانا الشهور الأكثر قسوة وظلمة، قاومت معه طويلا عزلة الزنزانة إلى اليوم الذي بحث فيه عنها صباحا ليوقظها كما تعود أن يفعل، عندما ارتسم الشعاع الحاد المتسرب من الأعلى على الحائط الخشن، فلم يجدها في مكانها المعتاد، ثم فوجئ بها معلقة في عش العنكبوت". وهل تعتقدون أن واسيني سيقف عن هذا الحد؟ تابعوا معي ما يلي:"أصيب الرايس بابانا بكآبة طويلة دفعت به إلى التفكير في أسهل وأقسى الحلول، الانتحار، مرِض، لم يتجرأ على أن يقول للطبيب عن سبب آلامه وكآبته، مريض بسبب ذبابة أوجدتها الصدفة، ظلت تؤنسه؟ سيعتبره مهبولا ويُقاد في اليوم التالي إلى مستشفى الأمراض العقلية..". وعليه يجعل واسيني من سجن بن بلة وحكاياته مع الذبابة والحالة النفسية التي دخل فيها بعد فقدانها دراما سردية بامتياز، خاصة فيما يخص تكثيف الأجواء والدلالات اللفظية.. إلى أن يصل إلى هذا الحوار مع ذئاب الرئيس، علما أن هذا المصطلح هو كتاب بأكمله كتبه بطل الرواية يونس مارينا. "- لماذا تفعلون هذا مع رئيس لم يفعل شيئا يسيء إلى البلاد، أعطى ثمرة شبابه لتحريرها؟ ساد الصمت لحظات قبل أن يرد عليه الرجل البدين، لأن الخمسة الذين كانوا معه كانوا كلهم ضعافا، كان يحمل على كتفيه رموزا عسكرية تشير إلى رتبته العالية، كان يتصبب عرقا: - مأمورون. - ضد أول رئيس للجمهورية؟ - أنت الآن لا شيء يا سيدي الرايس بابانا، أقل من حشرة. تذكر الذبابة وكاد يقول إن الحشرة أنبل منكم". - ولكن ماذا عن الصلح، عن السلام.. هل سيتواصل هذا الحقد، يقول واسيني على لسان شخص ثالث غير الرايس بابانا ويونس مارينا انه: "- أقسمت أن لا أغادر البلاد إلا مات غريمي، العقيد، وها هو قد انتهى، لم آت إلا عندما دفن، الله يرحمه، ويغفر له أيضا، اتضح يومها أن الشعب كان يحبه، ولم يعد لرأيي أي جدوى، قبلت بالحكم، لأنه يبدو أنه هو أيضا تغير قبل موته بقليل، مشكلة الوطنيين يمكنهم أن ينتقلوا بسرعة من مناضل إلى الطاغية الصغير. - سامحته بعد كل هذا؟ - سامحته، لم يكن أمامي سوى ذلك، أو أحمل حقدي معي إلى قبري، أنا أريد أن أرتاح يا صديقي من شطط الدنيا.. تعبت، حقيقة تعبت. - كأني لا أعرفك.. - كلنا تغيرنا يا صديقي، ثم هل يؤدي الحقد إلى راحة البال؟ الرايس بابانا نفسه في تصريح لمجلة لبنانية مباشرة بعد خروجه من السجن، وجد له كل أعذار الدنيا، الناس تغيروا بعدك يا حميمد، الدنيا وقسوة الحياة غيرت العقيد أيضا، حماقاته لا تحصى لكن انتسابه للفقراء ووطنيته كانا صحيحين." تتناثر حياة بن بلة على كافة حروف الرواية لأن واسيني يقدمها بطريقتين، الأولى واضحة عبر شخصية الرايس بابانا ذات الرمزية البسيطة بحيث يمكن فك إسقاطها من دون تعب. أما الثانية وهي شخصية يونس مارينا الذي استعار له اسم حميمد، وبالتالي لاتزال الحكاية متواصلة بنفس بن بلة.. لذا تؤكد زينب الأعوج، صاحبة دار الفضاء الحر، أنها ستكون متوفرة في طبعتها الجزائرية بعد أقل من شهر.