كان قطار الليل يخترق هدوء وسكينة كائنات خلدت إلى نومها، بعض الركاب يتثاءبون استعداد للانخراط في النوم وبعضهم يقتل الوقت بسيجارة أو بجريدة أو بالاستغراق في حديث جانبي مع رفيق الرحلة قد يكون من العائلة أو مجرد عابر وضعته الصدفة في طريقه. كان القابض الرئيسي يذرع العربات بين الفينة والأخرى كأنه يطمئن على نوم ”الساهرين” الذي لم يكن يعكر صفوه غير أهات وصفير تلك الدودة العملاقة تمزق الصمت الليلي. أخيرا قررت زيارة قسنطينة نزولا عند إلحاح صديقة عزيزة ما توقفت يوما عن دعوتي لزيارة مدينتها، لست ادري لما كانت دائما قسنطينة مدينة عابرة في زياراتي المتكررة للشرق الجزائري،كنت اكتفي بنظرة الفضول أرسلها من زجاج الحافلة أو القطار ابحث فيها عن تلك الجسور العملاقة التي خلدها الكتاب وأبدع فيها الرسامون، كنت أتصورها عملاقة بالشكل الذي يجعلها دائما قادرة على أن تطل من حدود تلك الصخور والوهاد. لم أفلح ولو مرة في رؤية جسر واحد منها وظلت لغزا في ذهني لسنوات. لم أكن أعلم في الحقيقة أن قسنطينة مدينة لا تمنح نفسها بسهولة لأي زائر وظلت على مر العصور تقرأ للتاريخ من على صخرة كانت دائما تحتمي بجسورها مثل امرأة تحتكم في عنادها إلى كبرياء الأجداد. القطار ما زال يطوي المسافات وما زلت أنا أحضر زيارتي إلى قسنطينة في شريط ذهني وأستعيد كل ما قرأته وسمعته عنها، في رأسي تزاحمت أغاني المالوف ودف الفقيرات وڤيثارة الفرڤاني، وجه مالك حداد في كتاب المدرسة، ومقهى نجمة الذي لا أعرفه إلا من حكايات العابرين. يصل القطار إلى المحطة بعد رحلة استغرقت أربع ساعات، وكان الصباح عندها قد نشر أضواءه الأولى على تلال وروابي المدينة، صوت المؤذن ينبعث نديا من أحد المساجد القريبة؛ يذكرنني أنني في مدينة ابن باديس ذاك الذي استطاع أن يحارب الاستعمار باللوحة والصلصال فقط ويشهر في وجه فرنسا قوة ظلت لعقود معطلة في المجتمع. فمن غيره شجع تعليم المرأة ربما بفضله فقط أنا اليوم أسافر لوحدي كل هذه المسافات، أنظر حولي أبحث عن تاكسي ينقلني إلى فندق ”البانوراميك”، لم أكن أدري أن إيجاد تاكسي في مدينة مثل قسنطينة يتطلب كل هذا الوقت، أنتظر قرابة نصف ساعة على رصيف المحطة حتى وجدت أخيرا من ”تبرع” بنقلي إلى حيث أريد. بعيون مسهدة مشطت أزقة مدينة تتململ في رقدتها الصباحية الساحات الرئيسة خالية من البشر في هذا الصباح المتعب وحقيبتي تستريح إلى جانبي في المقعد الخلفي للسيارة والنظرات المتحفظة للسائق تتفرس تلك الغريبة التي كنتها. ربما نمت ساعتين أو ثلاثا، فجأة أيقظني هاتف صديقتي وبلهجة طفولية قالت ”مرحبا بك في قسنطينة” لهجتها الدافئة تنفض عني تعب رحلة الأمس وتشعرني بفرحها يقفز إلى جانبي وأنا أغالب ما تبقى من نعاس وأدفع بنفسي خارجا سأكون عندك بعد ساعة” قالت: حسنا أجبت ريثما أحضر نفسي. تعمدت ارتداء حذاء رياضي، كنت أرغب في اكتشاف المدينة، سأمشي في أزقة قسنطينة كما لم أفعل من قبل، سأفتش أزقتها ”زنقة زنقة” وصخرة صخرة. إنني في قسنطينة بحثا عن وجه مدينة خرجت إلى بهو الفندق في انتظار أن تحضر صديقتي، بقيت أفتش بنظرة الفضول عن قسنطينة، عن تلك المدينة التي جئت أبحث عنها، من نافذة البانوراميك لم أجد ”الحب جالسا يقرأ الجريدة في مقعد حديقة بيته”، كما قالت أحلام التي شوشت فوضى الغربة حواسها فراحت توهمنا كقراء أنها تمنحنا مدينة نفخر بها أمام أنفسنا قبل غيرنا وأنها نجحت أخيرا في جعلنا نفخر بنسب بلد في حجم الجزائر إلى صخور التاريخ بدل حنجرة الشاب خالد. من نافذة الغرفة لم أجد غير غبار مدينة تعلن عن صباحها بكسل. وأخيرا هلت نجود، شعرت أن قسنطينة كلها ترحب بي، كان وجهها يشع بالدمع معتذرا عن كل تلك الأشهر والسنوات التي لم نر فيها بعضنا. إلى أين تريدين أن ندهب قالت ؟ وعلى الفور أجبت: أريد رؤية الجسور، قلتها بلجهة من ينتظر اكتشاف شيء عظيم وكبير. ابتسمت نجود كأنها تلبي عناد طفلة. من نافذة سيارة صديقتي؛ كنت أبحث عن وجه قسنطينة في هذا الصباح المغبر، من بعيد أطلت قنطرة لحبال وقنطرة السونسور قنطرة الهوا أو ”قنطرة الشياطين” كلها أسماء لجسور قسنطينة. ها هي الجسور التي صارت بفضلها المدينة جديرة بالتاريخ لمجرد أن رواية خلدتها ومنحتها من الحياة ما لم تمنحه إياها عقود وأزمنة تعاقب فيها الباشاوات والقادة والسراق على دروب هذه الأزقة. ركنت نجود السيارة على الطرف الآخر من الجسر وحاولت أن تجرني إلى عبور القنطرة إلى الضفة الأخرى ”لكنني أشعر بالدوار وبفوبيا الأماكن المرتفعة”، ترجيتها كيف تخافين من الدوار في مدينة مثل قسنطينة؟ أجابت لا يجدر بك أن تشعري بالخوف في حضرة صخرة. كنا نصعد أزقة ودروب سيرتا أو قسنطينة التي أضافأن قسطنطين الذي منحها اسمه لم يضع في الحسبان أن مدينة في عناد صخرة وصلابة جسر متأرجح وشموخ هوة لا يليق إلا بأنثى. بذلت صديقتي الكثير من الجهد حتى عبرت معها جسر سيدي راشد راجلة وكانت أول مرة أتخلص فيها من فوبيا الأماكن المرتفعة وأعبر جسرا وأنا راجلة. واصلت البحث عن المدينة في غياب وجه نجود الذي انشغل بترتيب جلسة في مطعم قريب، فقد أصرت نجود على استضافتي قبل أن نستعد لرؤية كل تفاصيل قسنطينة اليوم، يوم جمعة، والمدينة ميتة كعادة كل المدن الجزائرية، يا لها من صدفة ”قسنطينة مثل الكعبة يستحب دخولها يوم الجمعة”، هكذا قال وطار في روايته الشهيرة ”الزلزال” التي خلدت تفاصيل المدينة في حركاتها وسكنتها، ولأن الكعبة التي تحدث عنها وطار ستغلق آخر محلاتها بعد قليل. فضلنا أن نهوم على وجوهنا في الدروب، أريد أن أشبع فضولي من كل شيء، هنا هكذا قلت لنجود التي استغربت لهفتي” على صخرة مثلما قالت لي. إلى قسنطينة العتيقة أبحرنا راجلين، هذه المرة كنت أفتش عن قسنطينة أخرى غير هذه التي أمام ناظري. من القصبة إلى قصر الباي لم تكن المسافة بعيدة بعمر الزمن الذي استغرقته خطواتنا، ولكنها بعمر التاريخ، هو عصر بأكمله. قصر الباي لم يعد فيه ما يصلح للترميم أي مأساة، لم أعلق كثيرا في وجه صديقتي المصدوم بصدمتي والذي يكاد يعتذر عن شيء هو غير مسؤول عنه. فرنسا تركت هنا شارعا يشهد على عبورها من هذه الدروب ويشهد أيضا على مقاومة سكانها وتاريخها، الشارع الضاج بالحركة يعج بالمارة والباعة، إنه زمن التجارة في كل شيء وأي شيء، كنت أبحث عن ”ملاية”، ذلك الرمز النسوى الذي أعلن حداد التاريخ على أحد بايات قسنطينة، لكني لم ألتقط إلا صورة نشار لعجوز تخترق زحام المارة وصراخ الباعة، كانت موضة الحجاب العصري وسراويل الجينز تغطي السوق، فنساء المدينة توقفن عن إعلان الحداد منذ أن غزت أزمة الاستهلاك وجه سيرتا العتيق. في رحبة الصوف والسويقة انخرطت في الضجيج بكل حواسي، لكن إلى هذه اللحظات ما زلت أبحث عن قسنطينة، أين هي الكعبة التي تحدثت عنها يا عمي الطاهر ؟ كان يجب أن أزور محلات عزي، ذاك الشيخ الوقور الذي ما زالت يداه تغزلان خيوط الفتلة في أثواب تلبسها النساء دائما ببذخ التاريخ وأنفة الصخور. تحدثت إليه طويلا عن تاريخ القندورة القسطنطينية التي لا يمكن أن يخلو عرس منها، فلا بد لكل عروس قسنطينية أن تحملها وإلا ما كانت جديرة بحمل لقب ”بنات أو حفيدات الصالح باي”، كان لا بد أن أزور بيت مالك حداد وأبحث عن سر الأبواب الزرقاء التي سكنت رجلا مات عشقا للغة العربية ”لا مدينة تحسن الحديث مثل قسنطينة” قال يوما صاحب ”رصيف الإزهار”. لكني حتى الآن ما زلت أبحث عن وجه سيرتا العتيق، تمثال العذراء المجنحة على قمة هضبة المدينة، المكان شبه خال إلا من بعض الشباب يسترقون لحظات مختلسة من عمرهم، الغربان ما زالت تحلق في سماء الجسر، لعنة تطارد قتلة الصالح باي عبر التاريخ، أسفل الجسور غابت كهوف المدينة وأوديتها، لا شيء يمكن رؤيته من هنا غير أكوام النفايات تتجمع أسفل المنحدرات والبيوت المعلقة في الصخور المهددة بالانهيار، بعض تفاصيل رواية الزلزال واضحة جدا هنا. من زنقة العرب إلى رحبة الصوف ومن باب السويقة إلى رحبة الجمال الشارع الذي لا يزال محرما على النساء، كنت أفتش فقط عن مدينة اسمها قسنطينة. يوم كامل من التجوال وما زلت أبحث عن وجه صادفته يوما بين صفحات الكتب وأغلفة الروايات. مقهى كاتب ياسين، قهوة مرة وماء الزهر لا تبحثوا عن قسنطينة هنا يجب أن نغادر، لم يعد إأامي الكثير من الوقت للعودة إلى حي بن شيكو قالت نجود، المدينة تموت تماما على السادسة مساء وعلينا الحذر من قطاع الطرق والسراق ربما مازال أمامنا بعض الوقت لاحتساء قهوة. هل نذهب إلى قهوة نجمة أريد رؤية طيف كاتب ياسين لم تعلق نجود هذه المرة لكنها أيضا لم تعترض، كنا نقطع الأزقة والدروب الضيقة عبر الشوارع، محلات قليلة تعرض سلعها التقليدية وما غزا المدينة من بضاعة مستوردة. إلى اليسار يقع مقهى نجمة، المشهد لم يكن مشجعا على الإطلاق لدخولنا ”امرأتان في مقهى رجالي في يوم جمعة” عنوان يليق برواية حقا. إلى هذا الحد فهمت لماذا صديقي لم تعلق عندما عرضت عليها الأمر، اكتفينا بالتقاط صور للذكرى على بعد خطوات من المقهى الذي خلد رائعة كاتب ياسين واستعضنا عن مقهى ياسين بالساحة المقابلة للمسرح الجهوي، حيث تتوسط الساحة بضع الكراسي وضعها أصحاب محلات المثلجات التي لم تكن تستقبل في هذه الأثناء إلا بعض الفضوليين أو ”فارغين شغل” مثلنا، طلبت قهوة مرة بماء الزهر فيما طلبت نجود مثلجات. بي صداع مثير للدوار، ربما هو صدى عبورك للجسر هذا الصباح قالت نجود ضاحكة. ساعدني طعم القهوة المرة على النظر بإحساس مغاير إلى ما حولي ”الساحة والدرب المؤدي إلى الزقاق الموازي للمسرح ورحبة الجمال والجسور التي تستعد من بعيد لاستقبال المغيب. هل يمكن أن نخرج ليلا لرؤية المدينة؟ سؤال طرحته على صديقتي بعفوية مبيتة هل جننت؟ قسنطينة تنام باكرا ومن المستحيل أن نجد مكانا نذهب إليه بعد السادسة مساء. أصرت نجود أن أبيت ليلتي في بيتها بحي بن شيكو، سنسهر في ليلة قسنطينية، قالت تغريني بقبول دعوتها، وعدتها بالزيارة في الغد وكنت لحظتها صادقة في وعدي وأنا منشغلة عنها بالبحث عن وجه قسنطينة تراها أين تخفيه؟ في غرفتي بفندق البانوراميك كنت أرقب الليل يهبط رويدا على قنطرة سدي راشد وهي تنير بأضوائها للعابرين من أطياف القادة والأجداد، لم أستطع النوم قبل رؤية وجه قسنطينة الحقيقي، لم أشعر ببرد قسنطينة كما تحدثت عنه ”ذاكرة” أحلام ولا بدفئها، ببساطة كان شعورا محايدا مبهما على طاولة الغرفة، كانت هدية نجود تستريح بأناقة تشبه صاحبتها حلوى قسنطينية، هي ربما كل ما تبقى من تقاليد وعراقة مدينة غزاها التقليد في كل شيء. في الصباح أتاني صوت نجود أين أنت؟ في القطار العائد إلى العاصمة ماذا؟ بهذه السرعة والبساطة وحتى دون أن تودعيني، دعي الوداع والوعد معلقا بصخرة، ربما سأعود يوما، لكن رجاء في المرة القادمة ابحثي عن مدينة وليس عن رواية قالت صديقتي برجاء. لا عليك صديقتي فقد نسيت هذه المرة أن أنتبه لقول أحلام ”لا تبحثوا عن قسنطينة خارج كتبي”.